فاجأت الثورات الشعبية العربية، التي انطلقت من مدينة سيدي بوزيد في الوسط التونسي المهمش، الكثير من المراقبين ومراكز الأبحاث العربية والأجنبية، بل وجميع أجهزة الاستخبارات العالمية، ولكن مفاجآت العام الجديد قد تكون أكثر سهولة لمن يحاول قراءة ما بين سطورها، لرسم صورة لتطورات الأحداث المتوقعة فيها. الإسلام السياسي هو العنوان الأبرز، وكذلك المؤامرات التي تريد وضع العصا في دواليب حكوماته بعد فوزه الكاسح في أول انتخابات ديمقراطية شفافة تجري على أنقاض أنظمة ديكتاتورية قمعية فاسدة. عمليات التشكيك بفرص نجاح هذه الحكومات بدأت حتى قبل تشكيلها، وممارسة عملها، فهناك من يقول إنها لا تملك حلولا للأزمات الاقتصادية الطاحنة، وإنما شعارات فضفاضة، ووعودا إنشائية بحل مشاكل البطالة في أوساط الشباب، بينما قررت الدول الغربية المحبة للديمقراطية، حسب أدبياتها، وقف مساعداتها المالية لهذه الحكومات أو ربطها بشروط تعجيزية من الصعب القبول بها. حتى الدول العربية النفطية المتخمة بالعوائد، والصناديق الاستثمارية السيادية، تتلكأ عن تقديم أي دعم مالي، وربما بإيعاز من الولاياتالمتحدةالأمريكية، لخنق هذه التجارب الديمقراطية الوليدة المنبثقة من صناديق الاقتراع، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يعلن الدكتور كمال الجنزوري، رئيس الحكومة المصرية الجديد، أنه لم يصل إلى الخزينة المصرية من مساعدات غير مليار دولار فقط، بينما هربت في المقابل تسعة مليارات. سمعنا عن عروض خليجية بأكثر من عشرة مليارات دولار لمساعدة الشقيقة الكبرى، ولكن هذه المليارات لم تصل وربما لن تصل، وإن وصلت ففي الوقت الخطأ، وربما بعد إفشال الديمقراطية، لأنها تسير بسرعة السلحفاة، فهل من المنطقي، وبعد عشرة أشهر من انتصار الثورة المصرية، أن تعيش الخزانة المصرية على احتياطاتها من العملات الأجنبية، بحيث باتت هذه الاحتياطات قريبة من الصفر، في وقت لا تعرف الدول العربية النفطية ماذا تفعل بما هو متوفر لديها من سيولة نقدية سنوية تصل إلى ألف مليار دولار (تريليون دولار)؟ إسرائيل هي الأكثر قلقا، بل ورعبا من هذا النجاح الديمقراطي الكاسح لأحزاب الإسلام السياسي، خاصة في مصر، وتشاطرها القلق نفسه الولاياتالمتحدة والدول الغربية الأخرى، ليس من منطلق الحرص على المكتسبات الليبرالية التي تحققت على مدى العقود السابقة، وإنما على اتفاقات كامب ديفيد ومعاهدات السلام العربية الإسرائيلية. الولاياتالمتحدة تجد نفسها في حرج شديد الآن، وبات لزاما عليها أن تتعاطى مع الحكومات الإسلامية الجديدة، لأنها لا تستطيع مقاطعتها مثلما فعلت مع حركة «حماس» في الأراضي الفلسطينية المحتلة بتوصية من السيد الإسرائيلي الذي يصيغ السياسات والتحالفات، بل والحروب الأمريكية في المنطقة بأسرها. الإسلام السياسي وصل إلى الحكم في انتخابات نزيهة شفافة، ولهذا يجب أن يعطى فرصته كاملة دون أي معوقات داخلية أو خارجية. المنطقة العربية عاشت لأكثر من أربعين عاما في ظل الفساد والقهر والجوع، ولذلك فإن المرحلة المقبلة ومهما اتسمت به من صعاب وتحديات ومؤامرات الثورات المضادة المدعومة غربيا وأمريكيا، أفضل بمئات الأميال، فلن تكون أكثر سوءا. ويكفي أنها جاءت خيارا شعبيا، وعنوانا للكرامة الوطنية التي سحقتها، وما زالت، أنظمة الاستبداد. الإسلام السياسي لا يمكن، بل لا يجب أن يرضخ للإهانات الإسرائيلية والهيمنة الأمريكية، ومثلما تصدى للغزو الصليبي وانتزع القدسالمحتلة من براثنه، لن يتوانى لحظة في استعادة المقدسات العربية والإسلامية مرة أخرى وكسر طوق الإذلال المفروض عليها. الحكومات الجديدة لن تقبل بما قبلت به الأنظمة الساقطة أو التي لا زالت تترنح، أو في طريقها للترنح أمام ثورات الشعوب. ربما تهادن، وتبتعد عن المواجهات، وتتجنب خلط سلم الأولويات، وتركز على كيفية تثبيت حكمها، وتنفيذ برامجها الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها حتما لن تنسى قيمها ومبادئها، وهذا لا يعني أن القوى الأخرى غير الإسلامية تقل عنها وطنية، ولكن عندما يتم الاحتكام لصناديق الاقتراع، فلا بد من احترام أحكامها كاملة. وفي المقابل يجب أن تلتزم الأحزاب الفائزة بقواعد اللعبة الديمقراطية كاملة وتحترم الحريات الشخصية والرأي الآخر، وتؤمن بمبدأ التعايش والائتلاف. الثورات الشعبية التي أسقطت حتى الآن أربعة أنظمة ديكتاتورية كانت متجذرة متجبرة في ظلمها، يجب أن تسقط القهر الإسرائيلي أيضا، وبالوسائل السلمية نفسها، من خلال زخم جماهيري بالملايين إلى الأراضي العربية المحتلة، فمن تصدى بصدوره العارية لرصاص قوات الأمن المصرية والسورية واليمنية والتونسية والبحرينية لا نعتقد أنه يتردد، وهو الذي كسر حاجز الخوف، أن يواجه الرصاص الإسرائيلي ويسقط شهيدا من أجل تحرير المقدسات. الشعب الفلسطيني الذي كان رائدا في تفجير الانتفاضات وضرب أروع الأمثلة في مقاومة الاحتلال، يجب أن ينهض من بياته الشتوي، ويستعيد زمام المبادرة، ولا ينتظر أمرا من هذا التنظيم أو ذاك، فمن المخجل أن ترفع الشعوب العربية صوتها عاليا ضد الظلم، وتستشهد من أجل كرامتها وطلبا للحريات، بينما هو، صاحب القضية العادلة والأراضي المغتصبة يدير وجهه إلى الناحية الأخرى، وكأن أرضه غير محتلة. نعم التغيير الديمقراطي هو أولوية قصوى بالنسبة إلى الشعوب العربية، التي عانت من القمع والتوريث والفساد والقبضة الأمنية الدموية، ولكنه ليس ولا يجب أن يكون على قمة أولويات الشعب الفلسطيني، فكل ما يقال عن انتخابات رئاسية أو تشريعية هو أكذوبة، وحقنة تخدير، لحرف هذا الشعب عن أولوية التحرير الأهم. فأي انتخابات رئاسية هذه والرئيس محمود عباس نفسه يقول إن سلطته بلا صلاحيات ولا كرامة، ولا سلطة، وإن الإسرائيليين يريدونه أنطوان لحد آخر. فهل يذهب الشعب الفلسطيني إلى صناديق الاقتراع بعد خمسة أو ستة أشهر لانتخاب أنطوان لحد يتزعم سلطة تحمي الاحتلال ومستوطناته ومستوطنيه، وتصمت على عمليات الحفر والتهويد في القدسالمحتلة؟ نخشى على الثورات العربية من العام الجديد والمؤامرات التي تحاك في الخفاء لإفشالها، وبعض العرب ضالعون فيها ولا نستبعد حربا جديدة في الخليج العربي، تفجرها إسرائيل ضد إيران تحت ذريعة قرب امتلاكها لأسلحة نووية، وتهرع أمريكا لحمايتها. المصيدة النفطية التي نصبتها واشنطن للرئيس العراقي صدام حسين، الذي جعل من العراق قوة إقليمية عظمى تبت الرعب في نفوس الإسرائيليين (نعيش اليوم ذكرى إعدامه)، هي نفسها التي تنصبها حاليا لإيران، استفزوا الرئيس العراقي الراحل بسرقة نفطه، ثم إغراق الأسواق بملايين البراميل الإضافية لتنخفض الأسعار إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل حتى يجوع شعبه كمكافأة له على حرب خاضها لمدة ثماني سنوات ضد إيران، وها هم يستعدون حاليا لاستفزاز إيران من خلال فرض حظر على صادراتها النفطية يمكن أن يبدأ في الأسابيع الأولى من العام الجديد. العام الجديد سيحسم الكثير من الملفات قطعا، ولا نبالغ إذا قلنا إن انتصارات الشعوب العربية ستتواصل، وثوراتها ستتسع، وسواء فجرت أمريكا حربا جديدة ضد إيران أو لم تفجر، ستكون هي الخاسر الأكبر بعد إسرائيل قطعا، تستطيع أمريكا بما تملكه من قوة جبارة أن تقصف إيران لشهر أو شهرين أو عشرة، ولكن ماذا سيحدث بعد ذلك، ألم تنهزم بعد ثماني سنوات أخرى في العراق؟ ألم توشك على التسليم بالهزيمة بعد عشر سنوات في أفغانستان؟ ألم يجرها تنظيم القاعدة إلى حروب استنزاف دموية؟ ألم تخسر نفوذها وسمعتها ومئات المليارات نتيجة حروبها التي خاضتها من أجل إسرائيل أولا والنفط ثانيا؟ أعترف بأنني، ولأول مرة، أستقبل العام الجديد بروح عالية من التفاؤل، وعلى عكس كل الأعوام السابقة، والفضل في ذلك يعود إلى شهداء الثورات العربية الأبطال، الذين قلبوا كل المعادلات، وفتحوا بدمائهم الطاهرة أنصع الصفحات في تاريخنا. ولهذا لا أتردد بأن أقول لهم وللأرحام التي أنجبتهم شكرا وألف شكر ولن ننسى جميلكم.