يبدو أن عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المغربية المكلف، ليس في حاجة إلى نصائح أو دروس عن كيفية مخاطبة حلفائه لتشكيل الغالبية الحكومية، بعد نجاحه في تدبير مشاورات ناعمة، إلى حد كبير، أدت إلى إقناع فرقاء متمرسين بمشاركة حزبه تجربته الأولى في الحكم، بعد أكثر من عشرين سنة في الممارسة السياسية، قضى أغلبها في المعارضة. بنكيران، الذي خبر دروب السياسة في السر والعلن، كان أول من تواضع في طلب نصائح سلفه عباس الفاسي، في الوقت الذي أبان فيه عن تجلد وصبر أمام مسؤولية التعامل مع حجم الأضواء الكاشفة المسلطة عليه والتي قد تؤثر على الرؤية، حيث يحول انعكاسها دون تلمس الطريق بوضوح، مما قد يؤدي إلى التصادم مع الأجسام العالقة، إذا لم يجد صاحبنا الوقت والجهد الكافي لإزاحتها. ومع تقدم المشاورات، أصبحت ترشح أخبار عن بعض الشخصيات التي سيتم تكليفها بتسيير هذا القطاع أو ذاك، تتصدرها أسماء أمناء الأحزاب الحليفة، بما يدل، في حال تأكدها، على أن رسالة التغيير والإصلاح ربما لم تصل بالوضوح الكافي الذي يجعل رئيس الحكومة يتعامل مع الترشيحات بالحزم الكافي لتشكيل حكومة يرى فيها الشعب صور أبنائه، بهاماتهم وسحناتهم وفطنتهم وذكائهم وتمرسهم وصبرهم وطموحهم. وبين العاطفة والحزم، لا شك أن تفاصيل كثيرة تميز الشخصية القيادية لبنكيران، جعلته ينجح في كسب ثقة 82 في المائة من عينة تمثيلية ضمت 1000 مواطن مغربي عبّروا لأسبوعية محلية عن أملهم في أن يتمكن رئيس الحكومة في ضخ دم جديد في العمل السياسي وتشكيل فريق متجانس يعمل، بجد وإقدام، على تدارك النقائص والاختلالات ومعالجة المشاكل الاجتماعية المرتبطة، على الخصوص، بالفساد والاستبداد وسوء الحكامة. ومع ذلك، فإن ثقة الشعب المغربي في رئيس حكومته المكلف، والتي تكاد تكون غير مسبوقة، استمدها بنكيران، في ما يبدو، من قدرته على مخاطبة المغاربة بلغتهم، حيث استطاع، إبان خروجه الإعلامي الأول على التلفزيون الرسمي، تكسير الصورة النمطية التي رسمها هؤلاء في أذهانهم عن مسؤولين، متجهمين، لا يتحدثون إلا بمقدار، وبلسان متعثر تثقله المصطلحات الكبيرة أو الأخطاء اللغوية الصارخة. ولست متأكدا مما إذا كان رئيس الحكومة المغربية الجديد قد آثر العمل بمبدأ «أنسنة العمل السياسي» بحرصه الموصول على إضفاء مسحة عاطفية على مبادراته إزاء حلفائه، تجسدت على الخصوص في العفوية اللافتة التي يتحدث بها مع الجميع، مما أثار شعورا مزدوجا بالغبطة والحبور وبالرفض والنفور إزاء الحدود التي يتعين أن يرسمها رجل الدولة لنفسه وواجب التحفظ الذي يفرضه المنصب الجديد. يجب أن نعترف، مع بعض الحلفاء الأثيرين لرئيس الحكومة، بأن طموحات حزب «العدالة والتنمية» وآماله العريضة في تحقيق أفضل النتائج ستتحطم على صخرة الواقع الصعب، الذي لا يرتفع إلا ليكشف عن بطون المقاومة ومراكز الهيمنة والاستفراد بالقرار التي انتعشت في زمن الفوضى، فمكنت لنفسها وعززت معاقلها وغرست جذورها في الأعماق. وعليه، فقد رأينا كيف نأى الحلفاء بأنفسهم بعيدا عن التزامات البرنامج الانتخابي ل»العدالة والتنمية» الذي رفع سقف الوعود بدرجتين، على الأقل، عن حلفائه الأقربين، مما جعله يقبل بمبدأ التوافق، مرة أخرى، حول نقاط التلاقي التي ستمكن من وضع تصريح حكومي مُلزم للجميع، بما أن الناخبين اختاروا أن يتقاسم الحزب الأول الحكم مع أحزاب أخرى من طيف سياسي متنوع وبطموحات مختلفة. ولا شك أن أقطاب «العدالة والتنمية»، الذين أعلنوا عن استعدادهم لمراجعة بعض تعهداتهم الانتخابية، بما تقتضيه مصلحة تحالف الغالبية الحاكم، يدركون أن ذلك سيُفقد حزبهم بعض النقاط لدى قواعده وناخبيه من الذين يعمل رئيس الحكومة على إبقائهم إلى جانبه لإسناده وشد أزره أمام تنامي نشاط حركة 20 فبراير التي ما يزال فصيل مؤثر من فصائلها يشكك في مصداقية العملية السياسية برمتها. ومع ذلك، فإنه من السابق لأوانه الحكم على النوايا الإصلاحية لبنكيران وأصحابه، لأننا مدركون، كغيرنا، أن قطار التغيير قد انطلق، يحُثُّ السير صوب هدفه المعلوم، بدءا من محطة الخطاب الإصلاحي المؤسس للملك محمد السادس ليوم 9 مارس 2011 إلى محطة الاستفتاء على الدستور الجديد في فاتح يوليوز 2011، فمحطة الانتخابات التشريعية ليوم 25 نونبر 2011. وفي لجة هذا الحراك الدؤوب، ما كان منا إلا أن نستبشر بهذا الانتقال الديمقراطي الهادئ، الذي نقل البلاد من مرحلة إلى أخرى بتوافق بين المغاربة وقيادتهم، التي التزمت بالإصلاح، على أعلى مستوى، حين دعا ملك البلاد، في خطاب افتتاح البرلمان في 15 أكتوبر 2011، الفرقاء السياسيين إلى تحمل مسؤولياتهم الدستورية، كاملة، في المرحلة المقبلة. وإذا كان على رئيس الحكومة الجديد وفريقه في الغالبية أخذ الوقت الكافي لترتيب أولويات الإصلاح بين القضاء والتعليم والصحة والتشغيل والسكن، فإن ذلك ينبغي أن يكون بمقدار ما سيتحمله الشارع الذي يشغله الحالمون بالتغيير ويحتله العاطلون، بين الفينة والأخرى، ويقف على ناصيته الفقراء والمتسولون والمشردون والجانحون وفئات أخرى يرتفع سقف مطالبها وينخفض في حركة مد وجزر لا تلين. وفي مقابل ذلك، سيكون من المؤسف أن ينصرف البعض لخوض معارك الاستوزار والبحث عن تمكين الأقارب والأصهار، على حساب الانشغالات الحقيقية للعامة وطموحها إلى بلوغ مدارج التنمية والكرامة، بعدما اختارت، بذكاء وبحرية وتلقائية، حزبا عتيدا يشهد الجميع بانضباط مناضليه واستقامة أعضائه وكفاءة أطره، لخوض غمار الإصلاح مع شركائه، دون أن تنقص من قيمة الأحزاب الكبيرة الأخرى حين حافظت لها على مكانتها التي تستحقها. ولن نيأس من التأكيد، مرة أخرى، على أن مشروع الإصلاح، الذي يقوده الملك، ليس مجرد حملة علاقات عامة موجهة لتلميع صورة البلاد في الخارج أو لاحتواء حركة الشارع، بل هو مشروع مندمج ومؤسِّس لمغرب جديد بدأ بموافقة المغاربة على الدستور الجديد بنسبة لا تقبل الجدل (قاربت 98 في المائة) وتوج بانتخابات برلمانية ارتفعت فيها نسبة المشاركة بسبع نقاط كاملة، حيث بلغت 45 في المائة، مقارنة بانتخابات 2007، ولم يُطعن في صدقيتها من أية جهة إلى حد الآن. ولذلك ففرصتنا اليوم في الرقي إلى مستوى المرحلة وتجديد الوعي السياسي ومصالحة المغاربة مع الشأن العام أصبحت أكثر نضجا من أي وقت مضى، إذا عمد الجميع إلى الترفع عن صغائر الأمور وتوطدت إرادة صُناع القرار في تكريس التوجه نحو الإصلاح والمضي قدما في طريق إعمال بنود الدستور الجديد بمقاربة تشاركية مع المؤسسات الدستورية بمنطق متجدد يسمو عن الحسابات ويحفظ الحقوق والواجبات. محمد سالم الشرقاوي - إعلامي