كانت درجة الحرارة دون الصفر عندما وصلتُ إلى «فريدوم بلازا» أو ساحة الحرية التي تقع بقلب العاصمة الأمريكيةواشنطن. منظر الخيام الصغيرة المتناثرة على أرضية الساحة الرخامية يتناقض مع منظر العمارات الشاهقة الزجاجية التي تحيط بالمكان، خصوصا واجهة فندق «ويلارد» الملكي حيث قضى زعيم حركة الحقوق المدنية الدكتور مارتن لوثر كينغ ليالي طويلة يكتب خطابه الشهير «آي هاف أدريم» (لدي حلم) الذي أطلق شرارة المطالبة بحقوق متساوية للسود في أمريكا.
ساحة للنضال والتقاط الصور «فريدوم بلازا» عبارة عن ساحة واسعة تتوسط تقاطع شارع بنسلفانيا والشارع رقم 14 في واشنطن، يتوسطها تمثال لجندي بولندي من البرونز وبعض الشتلات الخضراء المزروعة على أطرافها النظيفة البراقة. كان السكون يخيم على المكان ولا تسمع سوى صوت السيارات التي تتوقف عند الإشارات الضوئية التي تطوق المكان من الجهات الأربع. غير بعيد عن المخيم كانت سيارة شرطة متوقفة وبداخلها شرطي أسود يراقب المكان من بعيد، وفي الجهة الشرقية من الشارع كانت سيارة بيضاء صغيرة تابعة لجهاز «السلامة العامة» متوقفة وبداخلها سيدة شقراء كانت منشغلة بقراءة صحيفة محلية. كانت الساحة الصغيرة التي تتوسط المخيم فارغة إلا من عدد من الكراسي الخشبية وكلب أشهب يتجول بينها بحرية، فيما يتصاعد بخار كثيف من خيمة متداعية تقع في آخر المخيم. كان بعض السياح الآسيويين يتوقفون لالتقاط صور بالقرب من المخيم، فيما تجرأ سياح أوربيون على الحديث إلى شاب أشقر من سكان المخيم كان يقف أمام خيمة بلاستيكية زرقاء غير بعيد عن الحمامات البلاستيكية المتنقلة الكثيرة التي وفرتها السلطات المحلية لسكان المخيم. «قررتُ المشاركة في هذه الحركة الاحتجاجية لإسماع صوت 99 في المائة من الأمريكيين المقهورين لنسبة الواحد في المائة من السكان التي تستحوذ على ثروات البلاد، ورسالتنا لهؤلاء الأثرياء الذين يشكلون واحد في المائة هي أننا لن نسمح لهم بنهب ثرواتنا من الآن فصاعدا». هكذا رد «ديف»، وهو تصغير لاسم «ديفيد»، على سؤال حول السبب وراء سكنه في خيمة صغيرة في هذا البرد القاسي. أوضح «ديف» أن سكان المخيم الذين يبلغ عددهم 200 شخص من مختلف الفئات العمرية وينحدرون من مختلف الولاياتالأمريكية قرروا الاستجابة لنداء (احتلوا واشنطن) الذي أطلقه متعاطفون مع حركة (احتلوا وول ستريت) التي بدأت في نيويورك قبل أسابيع، فحملوا أغطيتهم وبعض الأغراض الشخصية وجاؤوا إلى «فريدوم بلازا» في قلب واشنطن للاحتجاج على طمع الشركات العملاقة واستحواذها على ثروات أمريكا والعالم. كان «ديفيد» يتحدث بصوت منخفض ويتوقف بين حين وآخر لينفخ في كفيّه كي يدفئهما ثم يحكهما مع فخذيه. كان يرتجف قليلا وهو يتحدث كما كان يخرج من فمه بخار كثيف عندما يتحدث بسبب برودة الجو.
كفى طمعا.. كفى استغلالا
«جوني» شاب في منتصف العشرينات من العمر كان يقف بالقرب من فتاة سوداء توزع أغطية بلاستيكية زرقاء على الخيام القريبة من الشارع، قال إنه يعمل نهارا في أحد مكاتب العاصمة واشنطن لكنه يعود إلى المخيم في الرابعة بعد الزوال لاستئناف اعتصامه مع باقي زملائه الذين ترك بعضهم دراستهم ووظائفهم وجاؤوا إلى واشنطن كي يصرخوا في وجه الأثرياء المتحكمين في سياسات أمريكا الداخلية والخارجية ويقولوا (كفى طمعا.. كفى استغلالا.. وأرجعوا ثروات الشعب إلى الشعب). الكثير من الشباب المعتصمين في هذا المخيم يؤمنون بأن على أمريكا أن تتخلى عن حشر أنفها في شؤون العالم الخارجية وتهتم عوض ذلك بنسبة الفقراء التي ترتفع بشكل مطرد، كما أنهم يعتقدون أن حركة (احتلوا واشنطن) ستجبر سكان البيت الأبيض على التدخل في عالم حيتان وول ستريت الثرية ومحاكمة الأثرياء الذين تلاعبوا بسوق العقار وسوق الأسهم مما تسبب في انطلاق شرارة الأزمة المالية التي تشهدها أمريكا والعالم حاليا. اقترح علي «جوني» القيام بجولة داخل المخيم، فزرنا خيمة الإسعافات الأولية البيضاء التي تقع عند المدخل المقابل لعدد من الحمامات البلاستيكية الخضراء الإضافية التي تحيط بالمخيم. كانت الخيمة واسعة ونظيفة من الداخل، يتوسطها مكتب صغير عليه بعض الأوراق غير المرتبة فيما تنتشر عُلب الدواء البنية على الأرض كيفما اتفق. غير بعيد عن خيمة الإسعافات الأولية كانت تقع خيمة الطعام أو «المطبخ»، وهو عبارة عن خيمة بالية زرقاء بدعامات خشبية غير عالية بداخلها رفوف متعددة عليها الكثير من علب البهارات المختلفة وأكياس البقالة. على موقد ناري كبير كان وعاء حديدي ضخم يغلي ويتصاعد منه بخار ساخن كثيف. كان بعض سكان المخيم يدخلون ويخرجون من المطبخ ويسألون متى ينضج حساء الفاصوليا السوداء الذي كان يغلي على النار. قالت سيدة مسنة يبدو أنها مسؤولة عن «المطبخ» الذي يبدو بسيطا للغاية وبدائيا إن الحساء سيكون جاهزا بعد نصف ساعة. «قد يبدو كذلك لكنه يفي بالغرض وهذا كل ما نحتاجه هنا.. نحتاج وجبة ساخنة تدفئ أحشاءنا وليس مهما أن يتم طهوها في إناء ثمين.. هذا المطبخ يعكس الحالة التي يعيش عليها ملايين الأمريكيين الفقراء»، هكذا شرح «جوزيف» وهو أحد المعتصمين في المخيم، السبب وراء بساطة المطبخ الذي يتم فيه تحضير وجبات الطعام لسكان المخيم، وخصوصا وجبة العشاء التي يتجمع حولها الجميع بلهفة بعد يوم كامل من التظاهر وترديد الشعارات أو تنظيم فعاليات نضالية أخرى.
مخدرات واغتصاب وأسلحة
قال «جوزيف»، وهو شاب في بداية الثلاثينات وعاطل عن العمل إن المعتصمين يعرفون أن حركتهم رمزية ومازالت في بدايتها، لكنه توقع أن ينضم إليهم الآلاف خلال فصل الربيع. وكشف عن عزم سكان المخيم الحالي احتلال منطقة «المول» في واشنطن وهي منطقة سياحية شاسعة تقع داخلها الكثير من المآثر السياحية والتاريخية ويقصدها الملايين من السياح سنويا. أكد «جوزيف» أن رجال الشرطة توقفوا عن مضايقة سكان المخيم في الفترة الأخيرة لكنه اشتكى من حملات التفتيش المفاجئة التي تنفذها قوات الشرطة بين الفينة والأخرى. «يقتحمون خيامنا ويرمون أغراضنا على الأرض بحثا عن المخدرات أو الأسلحة.. أتفهم أنهم لا يريدوننا أن نتعاطى المخدرات لكن طريقة التفتيش ليست لطيفة وفيها انتهاك لخصوصيتنا». قال «جوزيف» بصوت متعب تعليقا على عمليات التفتيش المباغتة التي تقوم بها الشرطة بعد أن تلقت شكاوى من بعض سكان المخيم قالوا إن بعض المشردين الذين التحقوا بالمخيم يتعاطون أقوى أنواع المخدرات ويسرقون أغراض المعتصمين عندما يكونون منشغلين في المظاهرات نهارا. يذكر أن بعض الصحف المحلية في منطقة واشنطن قد أوردت أن ثلاثا من ساكنات مخيم «احتلوا واشنطن» تعرضن للاغتصاب من قبل شباب كانوا يسكنون في المخيم قبل أن يختفوا تماما عن الأنظار، بالإضافة إلى وفاة شخص واحد على الأقل بجرعة زائدة من مخدر الكوكايين. ويعمل سكان المخيم حاليا جاهدين على تحسين صورتهم في وسائل الإعلام الأمريكية بعدما تم تصويرهم في البداية على أنهم مجموعة من الشباب «الهيبي» المتمرد على القوانين، أو مجرد «هوملس» أي مشردين تجمعوا في هذا المخيم هربا من مسؤولياتهم الاجتماعية. «نحن هنا نمثل فقراء أمريكا الذين تبلغ نسبتهم 99 في المائة.. لسنا هنا خوفا من المسؤوليات لأنها ليست لدينا أصلا، فالمسؤولية تأتي مع العمل الذي يمكّنك من شراء بيت وسيارة والزواج وتكون لديك بالتالي مسؤوليات مالية واجتماعية... نحن هنا لأننا عاطلون عن العمل.. لأن الشركات الأمريكية هرّبت مناصب العمل إلى الهند والصين حيث تستعبد سكان تلك البلدان مقابل دولارات قليلة.. نحن هنا كي نقول كفى وأرجعوا ثرواتنا التي نهبتم ومازلتم تنهبونها منذ عقود». هكذا علق «جوزيف» على التقارير الإعلامية السلبية التي أذاعتها قنوات الأخبار الأمريكية، وأكد أن لا أحد يرغب في العيش في الشارع ومواجهة البرد القارس ومضايقات الشرطة لو توفرت له سبل العيش الكريم.
لن نيأس.. هنا باقون
لم يكن «جوزيف» وحده من رفض الصورة السلبية التي نقلتها وسائل الإعلام الأمريكية عن أعضاء حركة (احتلوا وول ستريت) والمتعاطفين معهم في باقي الولاياتالأمريكية الأخرى، وخصوصا زملائهم في مخيم «احتلوا واشنطن» في العاصمة، ف«مايا» التي تركت مقاعد الدراسة الجامعية في ولاية «نورث كارولينا» وجاءت كي تساهم في بناء المخيم منذ بدايته، قالت إن وسائل الإعلام الأمريكية ليست حيادية لأنها مملوكة لشركات كبرى هي عبارة عن أذرع إعلامية لشركات عابرة للقارات هي نفسها التي يندد بها المحتجون ويتظاهرون ضدها صباح مساء. «نحن ندرك حجم العدو الذي يواجهنا.. نحن نعرف أن شركات عملاقة تمتص دم الفقراء وتجمع الثروات على حسابهم لن تقف مكتوفة الأيدي وستحاول تشويه صورتنا ودفعنا لليأس... لكنني أقول لهم إننا لن نيأس ونحن هنا باقون وإذا كان الجو البارد والثلوج قد ثبطت عزيمة الشباب الغاضب هنا في واشنطن أو في ولايات ثانية فإن فصل الربيع ليس بعيدا وموعدنا سيكون أمام بوابة البيت الأبيض». وأكد عدد من سكان المخيم في تصريحات منفصلة أن فصل الربيع القادم سيكون فترة حاسمة بالنسبة إلى حركتهم وإلى حركة «احتلوا وول ستريت» بشكل عام في أمريكا، بسبب تنظيم الحزب الجمهوري لانتخاباته التمهيدية لاختيار مرشح في سباق الرئاسة الذي سينطلق السنة القادمة. «ربما لن يكون لصوتنا واحتجاجاتنا وزن الآن، لكن عندما نعرقل الحملات الانتخابية ونتدخل في التجمعات الدعائية ونحرج المتنافسين بأسئلتنا وبوضعيتنا فإن العالم كله سيعرف حينها من نكون وكيف يمكن لنا إجبار هؤلاء الساسة المتعجرفين على سماع صوتنا وإجبار أثرياء وول ستريت على الإنصات لنا... نحن الذين نشكل 99 في المائة من سكان هذه البلاد لن نصمت بعد الآن ولن نكتفي بالتفرج عليهم بينما يقودون البلاد نحو الهاوية بسبب طمعهم الذي ليس له حدود»!
النضال بالفاصوليا السوداء!
كانت «مايا» تتحدث بانفعال شديد وهي تفرك كفيها لتدفئتهما، فجأة انبعث صوت عال من خيمة «المطبخ» جعل الشاب الذي كان يقف غير بعيد عنها يرفع كفه بفرح ويشهر أصبعيه كشارة نصر ويقول بصوت منفعل «إتس دينر تايم» (حان وقت العشاء). كانت الشمس مازالت معلقة في السماء رغم الظلال البرتقالية التي تحيط بها والساعة لم تتجاوز الرابعة والنصف بعد الزوال، لكن سكان المخيم يختارون العشاء باكرا كي يدفئوا أمعاءهم وينامون باكرا استعدادا ليوم جديد من الاعتصام وترديد الشعارات التي تنادي بتحقيق العدالة الاجتماعية وتقسيم الثروات بشكل عادل ومحاكمة رموز الفساد الذين أثروا على حساب الشعب الأمريكي، الذي أكدت إحصائيات وطنية نشرت بداية الأسبوع في أمريكا أن نصفه بات فقيرا بسبب تداعيات الأزمة المالية الخانقة التي تشهدها البلاد. تجمّع بعض سكان المخيم تحت خيمة خضراء باهتة وأخذوا دورهم في صف منتظم يمتد إلى باب خيمة «المطبخ». كانوا يتسلمون صحونا مقعرة بلاستيكية متوسطة الحجم مملوءة عن آخرها بحساء الفاصوليا السوداء وقطعة من الخبز المربع وقطعة من الجبن. كان كل واحد منهم يحمل نصيبه من وجبة العشاء ويعود إلى الخيمة الخضراء ليجلس إلى طاولة خشبية متداعية ويلتهم الحساء بشهية كبيرة. كان المنظر مثيرا للاستغراب: شباب متحمس لكن جائع ويعاني من برد شديد، يرتجف وهو يتناول حساء الفاصوليا الأسود الساخن ويتبادل الآراء حول آخر التطورات السياسية في البلاد ويصر على تحدي الشركات العملاقة وأثرياء «وول ستريت»، وعلى بعد خطوات قليلة فقط من المخيم تأسرك ألوان زينة عيد الميلاد على واجهة فندق «ويلارد» الباذخ حيث ينام الأغنياء على أسرة وثيرة مقابل آلاف الدولارات في الليلة الواحدة! انتهى المعتصمون من تناول حساء الفاصوليا السوداء فقاموا ينظفون الطاولة ويرتبون الكراسي ويرمون الصحون البلاستيكية المقعرة قبل أن يتجمعوا مرة أخرى لفترة قصيرة تحت الخيمة الخضراء الباهتة لتوزيع المهام التي يجب القيام بها في اليوم التالي، وكان على رأسها مواصلة حملة جمع التبرعات لتمويل سكان المخيم حتى لا تكون وجبة العشاء الدائمة حساء الفاصوليا السوداء وقطع الخبز الجافة!