لو طرح علي سؤال: ماذا تقول عن القومية العربية؟ سيكون جوابي كالآتي: إذا كانت القومية، بصفة عامة، تعني انتماء الإنسان إلى قوم فلا ينكرها إلا مستكبر، لأنه ما من إنسان إلا وينتمي إلى قوم، والأنبياء عليهم السلام كانوا ينادون الناس بهذا النداء «يا قوم». فكوني أنتمي إلى العرب فهذا أمر واقع لا اختيار لي فيه، وكون العرب أصحاب الفضل في رفع راية الإسلام وإقامة أول مجتمع إسلامي ودولة إسلامية وكانوا حراسا لهذه العقيدة وأفضل من تغنى بالقرآن وغاص في كنوزه وأسراره وعلمه البشرية فهذا أمر واقع لا ينكره إلا جاحد. أما إذا كانت القومية تعني رباطا فوق العقيدة والدين أو بمعزل عنهما فهذا ما يأباه الإسلام وتأباه القومية والعروبة الصحيحة، عروبة أبي بكر وعمر وعلي لا عروبة أبي جهل وأبي لهب. فالإسلام دين الإنسانية وكان أول خطاب في التاريخ نادى الناس بصفة واحدة هي إنسانيتهم «يا أيها الناس» بكل إطلاق وعمومية، فالذين استجابوا لندائه اعتبرهم أمة واحدة دون سائر الأمم، لا فرق بين عربيهم وعجميهم إلا بالتقوى. والقومية في العصر الحديث إنما دعا إليها ونشر فكرتها قوم لا ينتمون إلى أمة الإسلام، بل أكاد أقول لا ينتمون حتى إلى العرب وإنما هم من بقايا الصليبيين في الشرق، وتلقفها عنهم مسلمون منحرفون أو بسطاء غير واعين بحقيقة الإسلام؛ وكان ظهور القومية العربية مرتبطا بالبرنامج الصهيوني في الشرق، وكان لزاما على الصهيونية التي قررت أن تنشئ لها دولة في قلب العالم الإسلامي، فلسطين، أن تفرق هذا العالم بتمزيق روابطه العقائدية عن طريق إثارة النعرات القومية، فأثارت في تركيا النعرة «الطورانية» وفي بلاد فارس النعرة «الفارسية» وفي بلاد العرب «النعرة القومية العربية»، فتمزقت بذلك الوحدة الإسلامية المتداعية التي كانت تمثلها الخلافة العثمانية والتي دافعت دفاعا مستميتا عن فلسطين، حيث كانت والعالم العربي جزءا من إمبراطوريتها تقف أمام أطماع اليهود بكل قوة. ولم ينجح «هرتزل»، زعيم الصهيونية، في مقابلته مع السلطان العظيم «عبد الحميد»، في أن ينال منه ولو مجرد وعد بهجرة اليهود إلى فلسطين ولا يزال جوابه له شاهدا على عزة هذا المسلم العظيم وكبريائه، فقد أجاب هرتزل وهو يغريه بالمال: «إن هذه الأرض التي تساومني عليها ليست أرضي وإنما هي أرض المسلمين، وإن الأرض التي فتحت بالدم لا تباع إلا بنفس الثمن». هذا إلى أن جاء دور بريطانيا في إثارة النعرات القومية في الشرق وفي طرحها لشعارات الجامعة العربية مكان الجامعة الإسلامية التي نادى بها جمال الدين الأفغاني، وهذه حقيقة تاريخية معروفة. فضلا عن ذلك، فإن الدعوة القومية دعوة رجعية لا بالنسبة إلى الإسلام فقط الذي يدعو إلى مجتمع عقائدي إنساني، بل حتى بالنسبة إلى العصر. فإذا كان القرنان الثامن عشر والتاسع عشر في أوربا قد عرفا بالدعوات القومية فإن أهم ما اتسم به القرن العشرون هو ظهور الدول العقائدية، كالاشتراكية والصهيونية التي جمعت حول عقائد مشتركة ومصالح مشتركة أجناسا مختلفة ولغات مختلفة. وإذا كانت القومية خطوة رجعية بالنسبة إلى الإسلام والعصر فهي خطوة تقدمية بالنسبة إلى الفكرة الوطنية، ومن هذه الناحية فقيادات الحركة الإسلامية لم تقف يوما ضد أي شكل من أشكال الوحدة العربية.