أذكر هذا لأن أمام الحركة الإسلامية في العالم العربي اختبارا صعبا يسقط فيه أعظم اللاعبين، ألا وهو السياسة والقيادة، في بلاد كسيحة منذ أيام كافور الإخشيدي. في نونبر من عام 2011م انتصرت حركة النهضة في تونس والعدالة والتنمية في المغرب، وهما تياران إسلاميان، في انتخابات وصفت بالنزيهة والشفافة، وبذلك قفز الإسلاميون إلى سدة يوسف الذي اعتلى عرش العزيز ووضع يده على خزائن الأرض فكان الحفيظ العليم. ولكن، هل حركة النهضة في مقام يوسف؟ وهل العدالة والتنمية تتبوأ مكانة الصديق؟ أذكر جيدا من السيرة حين فاجأ الوحي نبي الأمة فبدأ يرجف ويرعش حتى نزلت سورة تنصح بلف الدثار: (يا أيها المدثر قم فأنذر)، فالأمر ليس بردا بل تحديا بالحركة، فقال نبي الرحمة (ص) لخديجة الكبرى زوجته: لقد ولى عهد النوم؛ وهو ما ينتظر شباب الحركة الإسلامية في الشمال الإفريقي بعد أن قالت لهم الأمة: سلمناكم القيادة؛ ولهم الويل إن فشلوا! أمام التيار الإسلامي في العالم العربي مهمة دونها الجبال الراسيات، ولا أظن أنه سينجح فيها لأسباب في الحركة، وأسباب في الشلل الاجتماعي. مع ذلك، فالزمن كفيل بأن يكذب مزاعمي، وأرجو أن أكون مخطئا. مزاعمي هذه أحاول توظيف العلوم الطبية والتاريخية لها.. لقد حاولت ألمانياالغربية أن تحيي الشرقية التي كانت في قبضة الستازي (المخابرات الشيوعية STASI) فاشترتها مرتين؛ الأولى عبر صفقة مع جورباتشوف تقضي بألا يتدخل الجيش الأحمر حين انتفض الناس في خريف 1989م، والثانية حين أرادت بناءها فأنفقت 1300 مليار يورو بدون فائدة، والسبب هو الكساح والشلل الطويل. نحن نعرف هذه الظاهرة جيدا في عالم الطب والبيولوجيا، فكل عضو لا يستخدم يضمر، وكل مفصل لا يتحرك يتكلس، وهكذا. حين يبقى الإنسان في العناية المشددة أمدا طويلا ثم يستيقظ من سبات، نبدأ بعملية التأهيل لمفاصل متيبسة وعضلات ضامرة وعظام مترققة، وهي مهمة طويلة مزعجة مؤلمة وأحيانا لا تنجح؛ وإذا نجحت، مشى صاحبها بتعثر وتطوح وترجرج، فلا يعود سويا كما كان. نموذج هذا في المعارضة السورية ولماذا هي مزع ومزق! وهذا هو حال الشعوب التي تقع في قبضة الأنظمة الشمولية لفترة طويلة. ومن المفروض أن تموت فلا تنهض؛ فالحياة والموت مفردتان من نفس النبع، ولكن روح الله في الإنسان هي التي تدفعه إلى الثورة فيتقدم للموت، وهو مؤشر عجيب على جنون الإنسان فعلا وجدليته المحيرة، كيف يستقبل الشباب الموت كما رأينا في حمص في سوريا؟ الناس في سوريا يسمون الحماصنة جدبان! أي خفيفي العقل! فعلا إنهم مجانين بهذا المعنى، حمق بهذا المعنى، لأنهم يولِّدون المعنى والحياة! مشكلة الحرية والديمقراطية والسلام والعدل والتنمية أنها أكبر من الكلمات، فكيف سيتعلم الجاهل؟ ويأكل الفقير المعتر؟ أم كيف ستنتشل المرأة نفسها من طبقة الدونية وتتحول إلى كائن غير مهان؟ كيف سيتم التخلص من جيوش المخابرات والعسس والجاندرما؟ والقضاء على ديناصورات الفساد؟ كيف سيمشي البلد في طريق الازدهار؟ كيف سيرتفع دخل المواطن وينعم بنظام صحي معقول؟ كيف سيتم تأمين السكن للملايين من المشردين والحرية لمدن العبيد؟.. إنها مهمة دونها الجبال الراسيات! صدق القرآن حين قال إن الأمانة عرضت على الجبال والسماوات فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، فتورط، إنه كان ظلوما جهولا. نحن أمام جدلية غير قابلة للحل، فإذا كان الإنسان ظلوما جهولا، فلماذا يتورط فيحمل أمانة عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها؟ هناك انتخابات في العالم العربي، ويظن الناس أنهم وصلوا إلى شاطئ الحرية بسلام، وأنهم دخلوا عصر التنوير، ولكن من دخل عصر التنوير من باب السياسة دخله من الباب الخلفي. وحينما كان الفيلسوف إيمانويل كانط يكتب رسالته حول التنوير، لم تكن هناك انتخابات في ألمانيا. اتصلت بصديق لي كان مغموسا في الانتخابات إلى قراريط أذنيه، قلت له: هل انضممت إلى جوقة السياسيين؟ هز رأسه بأسف، وقال: سياسيون بلا سياسة، صدقت. الانتخابات لا تعني الديمقراطية وإنما وعيَ الجمهور، ولن يستطيع ديكتاتور أن يركب رقبة شعب واعٍ. استفدنا من مالك بن نبي حين نقل خرافات الصوفية إلى صناديق الاقتراع، فقال إن الفرق الصوفية القديمة تحولت إلى أحزاب سياسية، وأصبحت بطاقات الانتخابات حروزا وتمائم. كما أن الديمقراطية مفهوم رجراج، ولكنها الموضة الدارجة اليوم، ونفس ديمقراطية أثينا ضحت بأعظم عقل بشري فأرسلت سقراط إلى الإعدام. وما أريد أن أقوله أن رصيد الانتخابات هو الوعي أكثر من صناديق الانتخابات، وأن التمثيل الفعلي لإرادة الأمة يعتمد على آليات تخضع للوعي والمراقبة، فلا يعول مطلقا على الطيبة عند الإنسان؛ فأي إنسان ملك القوة تحول إلى طاغية، وأي سيارة ليست فيها فرامل مصيرها إلى الكارثة، وأي مجتمع يمسكه صداديم وقذاذيف صغار وكبار فمصيره إلى الهلاك ما لم تنفجر ثورة فتحرر! ولكنّ قولَ هذا سهل؛ فالعراق تخلص من صدام فنبت من رماده صداديم كثر، والقذافي لم يكن ليتخلص منه الليبيون بدون الناتو؛ فهذه حقيقة صادمة فاجعة مؤلمة، وهذا هو دأب الحقائق (أنها موجعة) ولكن لا يقولها أحد؛ فوجب على الكاتب أن يقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا. الانتخابات الحديثة هي نسخة مزورة عن ديمقراطيات الغرب، والديمقراطيات الغربية لا تنبع تماما من تراثنا، بل هي غريبة علينا مثل السيارة والطيارة والكمبيوتر! فهل من نموذج خاص بثقافتنا يولد فيه الإنسان محررا من علاقات القوة والمال؟ نحن نحكم بالمخزن والمخابرات والقوة والعسكر والمسدس والسيف منذ أيام الانقلاب الأموي، ولا نعرف الشورى ولو بالشمم والرائحة من مسافة سنة ضوئية، وتاريخنا هو خلاصة من قنص السلطة الدموي والمحافظة عليه بالدم، شاهد هذا مناظر الدم في سوريا واليمن. بالمقابل، في الغرب، من يسود ويتبوأ هو من يملك المال فيحرك الآلة الدعائية لحسابها فيصل إلى الكونغرس الأمريكي من رأيناهم يصفقون مثل القرود للصهيوني نتنياهو، وهو ما يذكر بمجلس قرود البابون في سوريا (عفوا مجلس الشعب). في الكونغرس قرود الأورانج أوتان، وفي سوريا قرود البابون بنسخة من قرود ممسوخين. آلية الديمقراطية الغربية تقوم ليس على نموذج (إكراه وقوة) المخابرات في جمهوريات الخوف والبطالة التي تسوق الناس بالسوط عبيدا خائفين. في أمريكا والغرب من يسوق الناس هو قوة المال من خلف جدار، فيمشي الناس عميا مسحورين. مع أننا نعلم بأن السحر خيال كما فعل سحرة موسى في الحنش وأفاعي الصل (خيل إليه من سحرهم أنها تسعى). السحر ليس حقيقة ولكن ما نراه في عالم السياسة هو الحقيقة التي تمشي على وجه الأرض في عالم الجملوكيات والكونغرس الأمريكي. الوهم لا يعني الحقيقة، ولكن هذا وهم؛ فهناك العديد من الأوهام يتغذى عليها الناس بقوة هي أشد من الحقيقة؛ لأن الأثر والمفعول لما يعتقده الناس بعيد عن الحق والحقيقة. في (الحديث) أن الإنسان الذي يقدم نفسه للولاية لا يمنح هذه الولاية، وهي آليات الديمقراطيات الحديثة، فجاء في الحديث «والله إنا لا نولي هذا الأمر أحدا سأله». وفي الحديث أيضا إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، ومنذ زمن بعيد ذهب المثل العربي «يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة». وذكر أبو حامد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» أن آخر ما يخرج من قلوب الصالحين هو حب الرئاسة، وعلل ذلك بأنها متعة الألوهية. والتوحيد أصله سياسي وليس لاهوتيا، وإلا لكانت بعثة الأنبياء والرسل في التاريخ سهلة. ولا إله إلا الله تعني نسخ ألوهية البشر السياسية. ومشكلة العالم العربي الحالية هي الوثنية السياسية لو كانوا يعلمون. والغرب حل هذه المشكلة العويصة فلم يعد الحاكم إلها، وكان من قبل كذلك. والملك هنري الثامن تزوج ستّ زوجات طارت رؤوس ثلاث منهن بالمقصلة على الشبهة، وكان يردد: أنا الملك مفوض من الله، وهو الذي أنشأ الكنيسة الأنجليكانية فأصبح بابا في لندن. وحيثما دخلت الحدود العربية طالعتك أوثان ثلاثية بما يذكر بعقيدة التثليث عند الكنيسة، وهذا يخبر عن أهمية الأمر الذي ألح عليه القرآن في نسخ عبودية البشر، وأنه ما أرسل من رسول إلى قومه إلا بهذه الكلمة: يا قومي اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون. والسياسيون الكذابون اليوم هم مثل سحرة موسى يلقون حبالهم وعصيهم لجمهور أمي يستقي ثقافته من محطات فضائية تنشر التضليل أكثر من الثقافة، بعد أن ودع الجمهور الكتاب وتحول إلى ثقافة المشافهة، ولم تكن المشافهة يوما ثقافة. وحينما تدعي أمريكا أن مهمتها زرع الديمقراطية، فيجب أن نفكر في الموضوع ألف مرة، وحسب سيمور هيرش، في حديثه عن حروب أمريكا المستقبلية، قال إن أمريكا تعتمد أصدقاء ديكتاتوريين في المنطقة العربية، وذكر بلدانا ثورية عربية دأبت على شتم أمريكا ظاهريا والتعاون معها سريا. وحينما نسمع حوار اثنين من السياسيين العرب عن الديمقراطية والانتخابات، فيجب اتباع نصيحة الفيلسوف شوبنهاور، ومفادها أن نراقب حوارهما مثل أي مسرحية هزلية يؤدي دورها أحمقان.