شخصيا لم أستغرب للرتبة المخجلة التي تقهقر إليها المغرب في سلم الرشوة. فخلال سنة واحدة انتقلنا من الرتبة 72 إلى الرتبة 80، هذا في الوقت الذي تراجعت فيه الرشوة في دول كان المغرب إلى الأمس القريب يتفوق عليها اقتصاديا واجتماعيا. إن هذا الترتيب الذي لحسن حظنا لم تكن الصحافة هي التي أنجزته وإنما منظمة ترانسبارينسي الدولية، هو أكبر تكذيب لما صرح به الوزير الأول عباس الفاسي لمجلة «جون أفريك» في عددها الأخير، والذي يرسم فيه صورة مشرقة لحكومته المتناسقة وللصلاحيات الكبيرة التي يتمتع بها على رأس هذه الحكومة. فبعد سنة من تولي حزب الاستقلال رئاسة الحكومة، هاهو مستوى انتشار الرشوة يزداد، والمغرب تغوص أقدامه في الفساد أكثر من ذي قبل. ورغم كل «العكر الفاسي» الذي يريد عباس طلاءه على وجه حكومته بعد سنة من تكوينها، فإن الواقع لا يرتفع، وعلى رأي المثل «وجه الشارفة ما يخفى ولو تحكو بالحلفة». فمظاهر هذا الفساد الكبير أصبحت بادية «للعيان». والمقصود بالعيان هنا طبعا ليس عباس. عندما يصل الفساد في بلد ما إلى مستوى مقلق، تظهر علامات دالة عليه لا تخطئها العين. فسقوط القطرة من سقف مطار دولي لم يمر سوى عام على افتتاحه، شيء مخجل وخطير في نفس الوقت. كما أن سقوط عمود ضوء بالقرب من الملك عندما جاء ليصلي في المسجد العتيق بعين الشق بالدارالبيضاء، يخفي مشاهد سقوط أخرى يتستر عليها والي المدينة ويخفي وراءها عجزه المزمن عن تسيير مدينة في حجم الدارالبيضاء. ولو أن الملك تقدم خطوتين ودخل إلى السوق المركزي الذي يجاور المسجد، والذي تركه «النصارى» وورثه محافظ وزارة الأوقاف بعين الشق، لاكتشف كيف يتجاور بائع الخضر مع الحداد وبائع اللحم مع صانع الأحذية، وكيف تمتزج رائحة «الكولا والسوميلا» برائحة «ترياش» الدجاج، ورائحة الفواكه برائحة «السودورات». فقد اكتشف سعادة المحافظ طريقة فريدة لكي يجعل كل هذه المهن المتنافرة تتعايش تحت سقف واحد. والنتيجة أن باعة الخضر والفواكه الذين كان من المفروض أن يكونوا مكان الحدادة وصانعي الأحذية، تشردوا في الحي جارين «كراريسهم» محولين أعرق حي في الدارالبيضاء وأرقاه معمارا على عهد الفرنسيين، إلى حي قروي تسوده الفوضى والأزبال. ولعل المغرب هو البلد الوحيد الذي يمكن أن تتحول فيه زبالة إلى تجزئة سكنية، ومقبرة لدفن أموات المسلمين إلى زبالة لرمي القمامة، والبلد الوحيد الذي يمكن أن ينتقل فيه المسؤول من «الحمارة للطيارة» ومن «الزبالة للطيفور». وبالأمس فقط بات سكان تجزئة «الهدى» بالدارالبيضاء في العراء، بعد أن اكتشفوا تشققات في شققهم التي باعتها لهم مجموعة «الضحى» صاحبة شعار «الله يعمرها دار» الذي صمت به آذان المغاربة بعد الإفطار في التلفزيون. فالضحى شيدت مشروع هذه التجزئة فوق «زبالة ماريكان» الشهيرة بعد ردمها، دون أن تضع في احتمالها أن الأرض التي بنت فوقها كل تلك الشقق ليست صلبة بما يكفي ولا تصلح أصلا للبناء. وهكذا بدأ السكان يلاحظون كلما هطلت الأمطار وتسربت المياه إلى جوف الأرض أن عماراتهم تغوص في الوحل. فخاف الناس على حياة أبنائهم وغادروا الشقق مطالبين بالتعويض. المدهش في الأمر أن بعض رجال السلطة عندما حضروا لمعرفة سبب احتجاج المواطنين، واكتشفوا أن الأمر يتعلق بشقق بنتها «الضحى»، تطوع أحد أصحاب الحسنات منهم ناصحا المحتجين «واش ماعرفتوش الضحى ديال من». وهذا سؤال مهم في الحقيقة. فالكثيرون يريدون معرفة «ديال من هاد الضحى نيت». مادام مالكها أنس الصفريوي يسمح لنفسه ببناء مساكن للمواطنين فوق زبالة دون أن يخشى المتابعة القضائية. وفي فاس التي يفتخر عمدتها شباط بشارعها الذي جلب رخام أرصفته من الصين «ليتفجج» فيه الفاسيون ويطلقوا أرجلهم فيه، تحولت مقبرة «باب الجيسة» وضريح «سيدي بولخوابي» إلى زبالة ترمى فيها بقايا الجلود والردم والقاذورات. ويبدو أن هذه هي طريقة العمدة شباط في تكريم خيرة الرجال الذين قاوموا الاستعمار ودفنوا في تلك المقبرة، جنب العلماء والأولياء الصالحين والفقهاء. والواقع أن المغرب لو ترشح مسؤولوه لمباراة أكبر غشاش في العالم، لحصلوا على المكانة الأولى مع مرتبة الشرف، حتى لا نقول القرف. وهاهم في مراكش يتفقدون أعمدة الضوء ويبلطون الحيطان والأرصفة والشوارع التي يمر منها الملك عادة عندما يزور مراكش. فقد خافوا أن يتكرر مشهد سقوط العمود أمام أنظار الملك كما وقع في الدارالبيضاء، أو كما وقع في مراكش نفسها في حي سيدي يوسف بنعلي عندما سقط عمود ضوء على رأس أحد المواطنين وقتله. فالأمطار الأخيرة كشفت عن عورة مراكش ومسحت عن وجهها تلك المساحيق البراقة التي تضرب السائح على «الشعا». ولعل سكان برج الزيتون بالمحاميد الذين بنت لهم مجموعة «الضحى» مساكنهم ووضعتهم في فوهة واد البهجة بعد أن كانوا يعانون فقط من مشكلة الواد الحار، كانوا أكبر المتضررين من الفيضانات المهولة التي جرفت حيهم قادمة من هذا الوادي الذي يهدد حياتهم. فأصبح زبائن «الضحى» بين نارين، حتى لا نقول بين واديين، «ماحيلتهم لواد البهجة ماحيلتهم للواد الحار». ومن كثرة الغش في البناء وإنجاز الصفقات أصبح من اللازم على منظمي الزيارات الملكية أن يفكروا في إدخال بعض الإجراءات الوقائية على الزيارات التفقدية التي يقوم بها الملك لبعض المؤسسات المكتملة البناء، حرصا على سلامته البدنية. ولحسن الحظ أن جزءا كبيرا من باب المستشفى الذي دشنه الملك مؤخرا بالفنيدق، سقط قبل أن يأتي ليعبر منه. فقد تهاوى الباب الرئيسي للمستشفى يوما واحدا قبل الزيارة الملكية، وكسر ركبة عاملة نظافة وتسبب لها في رضوض لازالت ترقد بسببها في مستشفى محمد السادس بالمضيق. ولذلك ربما ألغى الملك زيارته لمارتيل، فمع كل هذه الأبواب والأعمدة التي تسقط بمناسبة زيارته يصبح التريث أمرا مطلوبا، خصوصا في ظل وجود مسؤولين كل همهم منصب على «تشييط» المصروف من الميزانيات التي يرصدونها للمشاريع التي سيدشنها الملك. وإذا كان هناك أشخاص يجب أن يتابعوا بتهمة الإخلال بالاحترام الواجب للملك، فهم تحديدا هؤلاء الذين ينصبون للملك الكاميرا الخفية في المدن التي يذهب لزيارتها وتفقد المشاريع التي أطلقها بها من قبل. وهؤلاء النصابون لديهم خيال خصب لو توفر غرام منه لكتاب حوارات سلسلة «مبارك ومسعود» لكانت أحسن عمل كوميدي لهذه السنة. ففي مارتيل مثلا استعد مسؤولو المدينة للزيارة الملكية بكساء أرضية سوق السمك بغطاء بلاستيكي ووضعوا فوقه التراب والحصى حتى لا تفوح رائحة السوق العفنة ويشتم الملك رائحة المقلب. وخلال عطلة الملك الصيفية في تطوان تفتق خيال المسؤولين عن طريقة جهنمية للقضاء على الناموس الذي يعيش في الواد المالح، حتى لا تهاجم أسرابه القصر الملكي، فرشوا النهر بمبيد حشري. فقتلوا الناموس ومعه مئات الأنواع من الأسماك التي رماها البحر بالقرب من مصب النهر. وعوض أن ينجحوا في محاربة الناموس، نجحوا في نشر رائحة السمك المتعفنة في كل الأرجاء. إنهم عباقرة حقيقيون، لكن فقط في الغش والقوالب والحسابات الخاوية. وإذا كان هؤلاء «العباقرة» يمارسون احتيالهم ونفاقهم على الملك، فما بالك بالمواطنين البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة. في أول رد فعل للحكومة على تقرير ترانسبارينسي الذي صنف المغرب في الرتبة 80، قال خالد الناصري وزير الاتصال أن هذه الرتبة عار بكل ما في الكلمة من معنى. وهذه أكبر إدانة لحكومة عباس، لأن المسؤولية الأولى والأخيرة لهذا التدني تتحملها الحكومة. وأي حكومة تحترم نفسها تقدم استقالتها عندما تفشل في محاربة الفساد. أي يجب على عباس أن يعترف بالفشل و«يعطي حمارو».