ليس من قبيل الصدفة أن تبدأ إسرائيل، وبعد فترة صمت مريب استمرت تسعة أشهر، بقرع طبول الحرب، وبقوة تصمّ الآذان، بمجرد انتهاء مهمة حلف شمال الأطلسي المتمثلة في إطاحة نظام العقيد الليبي معمر القذافي وتسهيل عملية اعتقاله وقتله، فمن الواضح أن هناك خططا متفقا عليها في هذا الصدد تكون هي رأس الحربة فيها. من المؤكد أن خوض حرب ضد إيران قد يكون آخر شيء يريده الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها بلاده، والعالم الغربي بشكل عام، واقتراب إدارته الديمقراطية من انتخابات الرئاسة الأمريكية بعد 12 شهرا من الآن، ولكن عندما يكون بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، هو حاكم أمريكا الفعلي وراسم سياستها الخارجية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، فإن كل التحفظات توضع جانبا. في جلسة استماع للكونغرس الأمريكي حول إيران انعقدت الأسبوع الماضي، قال وزير الدفاع إن لدى وزارته خطط طوارئ، وقعها الرئيس أوباما بنفسه، لشن عمل عسكري ضد إيران، يتدرج من عمليات محدودة في العمق الإيراني إلى إعلان حرب شاملة. وإذا وضعنا في اعتبارنا أن هذا الكونغرس بمجلسيه صفق وقوفا، وبطريقة مقززة، لنتنياهو عندما خاطبه قبل بضعة أشهر، فإننا نعرف من هو صاحب الكلمة النهائية في أمريكا. في إسرائيل يتحدثون علنا عن تبني نتنياهو ووزير دفاعه إيهود باراك مخططات عسكرية لضرب إيران، لتدمير برامجها النووية، بعد وصول تقارير تفيد بأنها خصبت كميات كافية من اليورانيوم تسمح لها بإنتاج قنبلتين نوويتين في غضون أشهر معدودة، ولم يعد الوقت يسمح بتأجيل هذه الخطوة. صحيفة «الغارديان» الليبرالية كشفت يوم أمس (يقصد الخميس) عن إقدام وزارة الدفاع البريطانية على إعداد خطط للتدخل عسكريا لدعم ضربات جوية وصاروخية أمريكية للمنشآت النووية الإيرانية، وأكدت أن الإدارة الأمريكية «تسرّعت» في مخططاتها في هذا الصدد. الجنرال ريتشارد دانات، رئيس هيئة أركان الجيش البريطاني، يزور تل أبيب حاليا، للقاء بنظرائه الإسرائيليين والتشاور معهم، بينما يحلّ باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي، ضيفا على وزير الخارجية البريطاني للغرض نفسه. هناك تفسيران لا ثالث لهما لهذه التحركات، الأول أن تكون في إطار حملة نفسية مكثفة لإرهاب السلطات الإيرانية، والمثلث التابع لها (سورية، حزب الله، حماس)، وإعطاء إشارة طمأنة للإيرانيين في الداخل لإشعال ثورتهم ضد نظامهم مجددا، أسوة بالثورات في دول الجوار العربي غير الملكية، وأصحاب هذه المدرسة يقولون إن المناقشة العلنية في الصحافة الإسرائيلية لمثل هذه المواضيع الحساسة تؤيد وجهة نظرهم هذه، لأن خطط الهجوم العسكرية تُنفذ ولا يجري تسريبها للصحف. أما التفسير الثاني، وهو الأرجح، فيقول إن الغرب جاد في تهديداته في ضرب إيران، لأن المكاسب قد تكون أكبر من الخسائر، خاصة أن هناك المئات، وربما الآلاف من المليارات العربية جاهزة لتسديد الفواتير نقدا، تماما مثلما حدث في الحرب الأمريكية لتحرير الكويت وإخراج القوات العراقية منها عام 1991، وتدخل حلف الناتو لإسقاط نظام القذافي في ليبيا. وهناك من يقدر الأرصدة العربية الخليجية حاليا بأكثر من تريليونين ونصف التريليون دولار. ومن المفارقة أن الأكثر تحريضا على ضرب إيران، حسب وثائق ويكيليكس، هم الإسرائيليون أولا، والأنظمة الخليجية ثانيا، حيث وصفها العاهل السعودي برأس الأفعى، وطالب بقطعها فورا لإراحة المنطقة من سمومها، وقرأنا مقالات تقول «إيران أولا وإسرائيل ثانيا»، ولن نستغرب أن نقرأ مقالات في الأسابيع أو الأشهر المقبلة، تطالب بالتحالف مع إسرائيل لضرب إيران. الحكومة الأمريكية بدأت عملية شيطنة إيران بالإعلان عن كشف مؤامرة لاغتيال السفير السعودي في واشنطن، وربما تدخل هذه العملية التصعيد الأكبر عندما يصدر تقرير هيئة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة (مقرها فيينا) يوم الخميس القادم، الذي سيتضمن اتهامات لإيران بتخصيب اليورانيوم في منشآت سرية في عمق جبل قرب قم لأغراض عسكرية، في انتهاك واضح لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. الرأي العام الأمريكي الذي أنهكته حروب بلاده الخاسرة في العراق وأفغانستان قد يعارض أي حرب ثالثة، ولكن التحريض الإسرائيلي والنجاح الكبير الذي حققه حلف الناتو في ليبيا قد يجعلان قطاعا عريضا منه يغير رأيه إذا ما جرى استخدام الآلة الإعلامية الجبارة المتخصصة في التضليل وغسل المخ في أقصى قوتها. ضرب المنشآت النووية الإيرانية أمر ممكن ويسير ومضمون النتائج، بسبب القدرات الأمريكية والإسرائيلية الصاروخية والجوية الجبارة والمتفوقة، ولكن السؤال هو عما سيحدث في اليوم الثاني والثالث والعاشر والشهر التالي والعالم التالي وهكذا. إيران دولة عظمى من حيث المساحة والقدرات العسكرية وعدد السكان، وعندما يرى قادتها ما حصل للرئيس العراقي صدام حسين وبلده العراق بعد الغزو الأمريكي، وما حصل للعقيد معمر القذافي وأولاده وبلده، بعد تدخل حلف الناتو، وقبل كل هذا وذاك ما حدث لطالبان وأفغانستان، فإنهم قد يتصرفون بطريقة مختلفة، عنوانها هدم المعبد فوق رؤوسهم ورؤوس الآخرين جميعا وأولهم إسرائيل. ربما لن ينتظر النظام الإيراني طويلا قبل إطلاق عشرات الآلاف من صواريخه باتجاه إسرائيل والقواعد الأمريكية في الخليج، ومن المؤكد أن حزب الله اللبناني سيضرب ليس فقط ما بعد حيفا بالصواريخ بل تل أبيب نفسها، أما النظام السوري المنهك والمترنح فقد يجد في هذه الحرب خلاصا له، على أمل الخروج من أزمته الداخلية. هذه الحرب لو اشتعل فتيلها، فإنها الوحيدة التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها، ولكن ما يمكن التنبؤ به، وبكل تأكيد، أنها ستغير وجه منطقة الشرق الأوسط، بل والعالم بأسره كليا، وبصورة أكبر من متغيرات الحرب العالمية الثانية، فإما أن تنكمش إسرائيل مساحة وقوة ونفوذا، بل ووجودا، وإما أن يتحول العرب والمسلمون إلى سبايا لها، يركعون تحت أقدامها. إذا اندلعت الحرب ستكون إسرائيل من يطلق الصاروخ الأول، وسيتبعها الآخرون، دعما وتضامنا، ولذلك ستكون صاحبة النصيب الأكبر من الانتقام، أو هكذا نفترض. لا نريد المبالغة في توقعاتنا بعد أن انهارت مثيلاتها في العراق في الحربين الأمريكيتين الأولى والثانية، ولن نعوّل كثيرا على الشارع العربي الذي كان رد فعله مخيبا للآمال، وحتى وإن أحدثت الثورات العربية تغييرا في مشاعره ومواقفه فإنه تغيير محدود ولم يكتمل بعد. ما يؤلمنا أننا، كعرب ومسلمين، مستهدفون دائما بالحروب ونهب الثورات، نخرج من حرب لنقع في أخرى، ولا مجال لالتقاط الأنفاس.. أما لهذه الدائرة المهينة من نهاية قريبة؟