الداخل إلى مراكش عبر القطار سيجد أنها مدينة جميلة تستقبل زوارها بشوارع فسيحة وحدائق وفيلات ونجوم متلألئة في سماء قريبة لأنه لا وجود لناطحات سحب في هذه المدينة الحمراء، لكن فيها أشياء كثيرة تنطح عزة مراكش وتاريخها وأنفة سكانها. مراكش، مثل أغلب المدن المغربية، تبدو أجمل خلال الليل، لأن الكثير من عيوبها تتدثر بالظلام أو تختفي خلف مساحيق الأضواء الباهرة أو ألوان قوس قزح التي تهيمن على ملاهيها وفنادقها الفاخرة و«رياضاتها» الغامضة وأماكنها السرية. في الصباح، لا يمكنك أبدا أن تجد نفس مراكش التي وصلتها ليلا. حول الكثير من أسوارها التاريخية، «تعبق» روائح البول وكأنه لا يوجد مكان يصلح للتبول أفضل من رموز التاريخ؛ وطرقُها، التي كانت فسيحة وخالية خلال الليل، تصير في الصباح متاهة حقيقية؛ والدراجاتُ النارية تمارس لعبة الغمّيضة مع السيارات، والسائقُ البارع هو الذي لا يصدم أكثر من دراجتين في اليوم. نسوة مراكش تخلَّيْن عن عاداتهن القديمة في ركوب الدراجات الهوائية وصرن اليوم يركبن فوق دراجات نارية أنيقة. تلك الصورة القديمة لامرأة تقليدية بجلباب ولثام وهي تسوق دراجتها الهوائية في شارع مراكشي، صارت اليوم مختلفة، إنها صورة فتاة فاتنة تضع خوذة أنيقة على رأسها، يتطاير تحتها شعرها المسبل، وهي تركب دراجة «سكوتير» زاهية الألوان. مراكش مدينة البهجة، هكذا يصر المغاربة على تسميتها وكأنهم يريدون منها أن تظل دوما مدينة ضاحكة رغم كل أحزانها؛ والحقيقة أن في هذه المدينة ما يكفي من المشاكل والهموم التي تجعل أهلها يتزودون كل صباح بقسط غير يسير من الصبر والقدرة على نسيان الهموم. لكن، لو ظلت المدينة تزدحم وتكتظ وتختنق، فإن بهجة المراكشيين ستصبح نكدا حقيقيا. يلخص سائق سيارة أجرة هموم المراكشيين في كل شيء تقريبا: «دار الضّو هلكتنا أخويا، حتى كيوصلو العْواشر عاد كتهددنا إما نْخلصو ولا تقطع لينا الضّو. واش هادا تصرف ديال المسلمين؟». لسائق الطاكسي هموم كثيرة أخرى يتقاسمها مع كل المراكشيين، في الصحة والتعليم والإدارة والخدمات والبنيات التحتية.. والفساد.. الكثير من الفساد. لكن سائق الطاكسي ليس من أنصار المظاهرات، ونظريته واضحة: «إذا وصل الفقراء إلى الحكم فسيتصرفون بنفس الطريقة التي يتصرف بها المسؤولون حاليا»، انتهى كلامه، وهو حر في أن يقول هذا الكلام لراكب لا يعرف هويته، وأكثر من هذا طلب منه أن يوصله إلى باب ولاية الأمن. مراكش ليست مدينة واحدة، هي جزر معزولة في حمرة واحدة؛ ويخطئ كل من يعتقد أن اللون الموحد للمباني يدل على الانسجام الطبقي والثقافي والاجتماعي.. هناك الفنادق الفاخرة التي ينزل فيها أغنياء العالم، وهناك «رياضات» الأجانب التي تنغلق على نفسها مثل صناديق من حديد وتجري فيها أشياء كثيرة تجرح كرامة المراكشيين وعزتهم، وهناك الشوارع الفسيحة والحدائق الأنيقة، وهناك الأزقة الوسخة وروائح البول، وهناك مهرجان السينما الذي يستضيف نجوما يعتبر الاقتراب منها محرما، وهناك «ساحة الفْنا» بنجوم في متناول الجميع، وهناك وجبة بألف دولار، ووجبة بنصف درهم، وهناك الأحياء الراقية التي يرطن سكانها بمختلف اللغات، وهناك أحياء الشعب التي يتحدث سكانها تلك اللكنة المراكشية الأصيلة والمتميزة. في مراكش نصف تاريخ المغرب، وكان من الممكن أن تكون هذه المدينة واحدة من أشهر المدن العالمية في مجال السياحة الثقافية والتاريخية، هي عاصمة المغرب لقرون وبوابة المغرب على إفريقيا وكأس امتزجت فيه الثقافات والأمزجة والسحنات، هي مدينة الأسوار والقلاع والقادة والأمراء والقصور والمعارك والقبور. لكن يوسف بن تاشفين، رمز المراكشيين والمغاربة، له قبر يتبول قربه العابرون، ومراقد السبعة رجال تثير الخجل، وأسوارها تتداعى أمام قصف السياحة الجديدة.. مراكش صارت تطاردها شهرة من لون آخر، شهرة سياح وأغنياء وأجانب لا يبحثون سوى عن نزوات، وليذهب تاريخ هذه المدينة المجيدة إلى الجحيم.