يتشكل التحالف، المنبثق والمعلن عنه في الآونة الأخيرة، من فسيفساء سياسية لا يجمع بين أطرافها المتناقضة جامع ولا يقرب بين رؤاها إلا الاستعداد ل«عدو» متربص يرتكز على منظومة إيديولوجية وشعبية وازنة وتجعله استطلاعات الرأي في طليعة الأحزاب المنافسة بشدة في الاستحقاق المزمع إجراؤه في ال25 من نوفمبر. ويدفعنا هذا التحالف الثماني إلى التساؤل باندهاش بليغ: متى يتبقى للسياسة بعض من معانيها؟ أوليس في هذا التحالف «قتل» للفعل السياسي، ممارسة ومعنى؟ أسئلة كان من اللازم طرحها في الآونة الأخيرة مع التطورات المتسارعة نحو التهافت على بناء «تحالفات» و«تعاقدات» بين المتناقضات والمتناطحات كأضداد لا تقبل التعايش إلا في عالم فنطازي عجيب، وذلك استعدادا لخوض غمار الانتخابات المختلفة، سواء هنا في المغرب أو بعيدا هناك في بلدان الربيع العربي أو حتى في العالم الغربي أيضا. فإذا كانت السياسة، في معنى من معانيها، امتلاء واحتواء، امتلاء للممكن واحتواء للاممكن، وفق نظرة جعل الواقع المتصلب المتخشب أرضا خصبة قابلة للإحياء والإنماء، فإن ما نشهده في الآونة الأخيرة مجرد تهافت من قبل أحزاب متصارعة على مواقع الحظوة عند الناخب، حتى وإن استدعى الأمر خلط «الخل بالخميرة» في خلطة عجيبة مستعصية على الفهم، عسيرة على الهضم، ترشح منها رائحة قوية تزكم الأنف إلى درجة لا يجد الواحد إزاءها سوى رغبة قوية في التخلص من هذه الخلطة التي لا تشبه، بأي حال من الأحوال، خلطة الوالدة في إعداد فطيرة الصباح. ولعل هذا التجمع الثماني الذي أعلن عن تشكله في الآونة الأخيرة بين أحزاب مختلفة، من المفترض أنها ذات يمين وذات شمال، يزيد الأمر التباسا ويزيد الناخب زهدا في السياسة والساسة؛ فليس بخاف على المتتبع أن «المصلحة الانتخابوية» هي الدافع وراء تشكل مثل هذا «التكتل» الذي لن يرقى، مهما طال اتحاده، إلى مرحلة التقاطبات المعمول بها في الدول المتقدمة، ذات الأعراف السياسية وفق نظرة إيديولوجية معينة واضحة المعالم، ثابتة الرؤية لا يضل معها الناخب ولا يشقى. ولا يعني هذا، بأي حال من الأحوال، مصادرة رغبة أي كان في الاستقطاب لصالح هذا التكتل أو ذاك. ولعل الملاحظ سيقول إن ثمة تجربة سابقة لا تزال قائمة، في إشارة إلى «الكتلة الديمقراطية» التي جمعت لدى تشكلها بين اليمين واليسار، بين «التقدمي الملحد» و«المخزني الرجعي»، حسب التصنيفات والتراشق المتبادل آنذاك؛ لكن من المنصف أيضا الإشارة إلى أن هذا التكتل نفسه، والذي عد في ذاكرة المغاربة المتحزبين المحسوبين على الأقل على دائرة القرار في الكتلة وليس لدى القواعد، هو «طفرة سياسية» هامة استطاع الواقفون خلفها أن يتبادلوا الأدوار والمصالح والامتيازات من خلال الاستوزار ورئاسة الحكومة والحظوة لدى صانعي القرار والاستفادة من رعاية المخزن لهم ولامتيازاتهم العديدة والمتنوعة.. والتماسك الظاهر لهذا «التكتل الديمقراطي» نفسه على بعد أمتار قليلة من السباق الانتخابي، والذي يجسده كون أعضائه قليلا ما يزايد بعضهم على البعض أو ينتقدون قرارات قياداتهم الشائخة، لا يعدو أن يكون تماسكا هشا وتقاربا ظرفيا لا يدعمه بنيان فكري متين قائم على وحدة الأفكار أو تقارب الإيديولوجيات بين المكونات الأساسية لمكون سياسي كهذا. وفي استقراء رئيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة للوضع العام في المغرب الذي يسبق عملية إجراء الاستحقاقات التشريعية والجماعية وفق الدستور الجديد، اتضح له أن «معالم الفساد الانتخابي المرصودة في هذا المجال خلال الاستحقاقات السابقة تراوحت بين أفعال الرشوة والترحال الحزبي واستعمال الأموال واستخدام الممتلكات العمومية والتلاعب في البطائق الانتخابية والتدخل غير المبرر للسلطة»، فلا يزال «هناك -يضيف محمد بودرار- إجماع عام على استمرارية الممارسات التدليسية المرتكبة من طرف المرشحين»، ويؤكد رئيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ما ذهب إليه ليرسم بذلك صورة قاتمة لا تبشر بأي تحول إيجابي نحو بناء ديمقراطية حقيقية، حتى وإن جاءت تحالفات تلو أخرى. ومن المؤسف أن تظل هذه المؤسسات الدستورية الهامة خاضعة لمثل هذه السلوكيات المدمرة للعملية الديمقراطية، فالبارومتر العالمي برسم 2010 لمحاربة الرشوة أبان عن مدى الاختلال الحاصل في الأحزاب السياسية بسبب تعاطيها للفساد الذي ينخرط فيه الأعيان المعتمدون كوكلاء للوائح خلال الانتخابات. وفي المحصلة تضررت العملية السياسية برمتها بسبب الفساد الذي بلغ فيها سقفا عاليا، حيث أصبح القطاع الحزبي يأتي على رأس القطاعات الأكثر تضررا بالفساد بعد القضاء والوظيفة العمومية والأمن. طبعا، تظل الاستثناءات من هذا الفساد السياسي العام قائمة كما هو الشأن بالنسبة إلى بعض الأحزاب اليسارية الصغيرة وكذا حزب العدالة والتنمية، وهي الأحزاب التي شهد لها بالشفافية والنزاهة والديمقراطية الداخلية، غير أنها تظل ذات تأثير طفيف في إصلاح المسار السياسي العام للبلد، خاصة مع نشوء ما صار يعرف بحزب «صديق الملك» الذي كان وراء التحالف الثماني العجيب أو الخلطة العسيرة على الفهم والهضم.. ما يحصل هذه الأيام، في كثير من بلدان الربيع العربي التي تشهد استعدادات مكثفة لإجراء انتخابات تشريعية وأخرى محلية وسباقا محموما نحو سدة الحكم بعد أن تمت إزاحة أنظمة القمع البالية منها، هو «فوضى» مربكة للمسار الديمقراطي وتجاذبات حادة بين الأقطاب تستغلها جهات خارجية، خدمة لأجندات تعمل بالوكالة لصالح ذيول النظام العربي المنهار؛ ولعل أحداث مصر الأخيرة خير دليل على ما نذهب إليه، رغبة من هؤلاء «المرتزقة» في الإيحاء بأن هذه الشعوب العربية لا تجيد العيش تحت مظلة الحرية والتداول السلمي على السلطة والديمقراطية الحقيقية.. رهان سيحاول هؤلاء المرتزقة كسبه، سواء هناك في البلدان التي أفلح أهلها في التخلص من رمزية الأنظمة القديمة أو هنا في المغرب الذي يريد فيه المخزن، بكل ما أوتي من قوة، إبقاء الحال على ما هو عليه بإعادة إنتاج الفساد وتصريفه بين الناس باعتباره العملة الوحيدة الممكن تدولها في هذا الظرف، مع محاولة بث اليأس في النفوس من كل إصلاح في أفق بناء صرح ديمقراطي عتيد، حتى تسود فلسلفة «سياسة اللامعنى»..