محمد أحداد وجد وزير الداخلية مولاي الطيب الشرقاوي نفسه في وضع لا يحسد عليه بعد أن أنهى الملك خطابه الافتتاحي لأشغال دورة أكتوبر التشريعية حين علم أن عددا كبيرا من النواب غادروا المجلس قبل المصادقة على القانون التنظيمي لمجلس المستشارين، الأمر الذي حتم على رئيس الجلسة رفعها حتى يكتمل النصاب القانوني. وليست هذه هي المرة الأولى التي يضطر فيها رئيس مجلس النواب إلى رفع جلسات المناقشة بفعل غياب النصاب القانوني، بل حتى التصويت على قانون المالية، الذي يحدد التوجهات الاقتصادية والمالية الكبرى للبلاد، يشهد غياب البرلمانيين، الشيء الذي فرض أكثر من مرة نقاشا عميقا حول الاستهتار بقيمة العمل البرلماني والتشريعي، وطرح في نفس الوقت سجالا حول الإجراءات الزجرية التي نص عليها القانون الداخلي لمجلس النواب من أجل الحد من هذه الظاهرة المسيئة إلى مؤسسة أفرد لها الدستور مكانة بارزة. وعلى الرغم من أن الملك دعا في خطابات متعددة إلى إعادة تأهيل العمل البرلماني والاضطلاع بمهامه التشريعية والالتزام بثقة الناخبين، فإن مؤشر غياب البرلمانيين عن جلسات المناقشة طيلة الدورة البرلمانية أعاد النقاش من جديد إلى الواجهة. إذ باستثناء حزب العدالة والتنمية، الذي يفرض على نوابه توقيع لائحة للحضور كالتزام أخلاقي للحزب على المواظبة في مناقشة سلسلة القوانين المعروضة على أنظار المجلس، فإن باقي الأحزاب الأخرى لا تعير للأمر أهمية كبيرة، حسب بعض المحللين. في هذا الصدد بالذات، تؤكد بسيمة حقاوي، القيادية في حزب العدالة والتنمية، أن«ظاهرة تغيب البرلمانيين في جوهرها خيانة للأمانة وخيانة للناخبين وإخلال بالوظيفة التي ينفرد بها البرلمانيون، بل هي استهتار حقيقي بالمهمة التي اؤتمن عليها هؤلاء، خاصة حين لا تكون هناك أعذار مقبولة تبرر هذا التغيب، الذي أصبح وصمة عار في جبين المؤسسة التشريعية المغربية». وأضافت حقاوي في تصريح ل«المساء» أن «هذه الظاهرة تؤشر على وضع غير سليم لمؤسسة كان من المفترض أن تحظى بالهيبة والاحترام، وأرى أن الذي يتغيب عن دورات وجلسات المجلس لا يستحق أن يمثل المواطنين». لا يعني الحضور، في تقدير حقاوي دائما، الحضور الجسدي فقط، وإنما المشاركة بطريقة فعالة وناجعة في بلورة رؤى والإمساك بزمام المبادرة للنهوض بمهام مجلس النواب، لكن «مع الأسف لم تعمل رئاسة مجلس النواب على تفعيل النظام الداخلي للمجلس، الشيء الذي أفسح المجالس ل«سيبة» حقيقية تتناقض بشكل صارخ مع مقتضيات الدستور الجديد الذي أتى بمفهوم جديد لممارسة العمل التشريعي». النظام الداخلي لمجلس النواب يبدو، حسب بعض المتتبعين، في ظاهره حازما في تعامله مع الظاهرة، لكن الحسابات السياسية ومنطق توزيع الأدوار بين الأغلبية والمعارضة، وفق ما تبتغيه «سوريالية المشهد السياسي المغربي»، يجعل من هذا القانون مجرد إجراء شكلي لا يعالج في العمق ظاهرة تجذرت في الثقافة السياسية المغربية، وغذتها مواضعات ومعادلات لا تمت للعمل التشريعي بصلة. في هذا الإطار لا يتوانى بعض المحللين السياسيين في توجيه سهام النقد إلى الأحزاب السياسية، متهمين إياها باستحضار هواجس انتخابوية وسياسيوية ضيقة تستعمل فيها ورقة غياب أو حضور البرلمانيين كورقة رابحة لتكريس مبدأ الابتزاز. ينص القانون الداخلي لمجس النواب بشكل لا يدع مجالا للتأويل على أنه يتوجب على البرلمانيين الحضور في جميع الجلسات، مؤكدا في إحدى فقراته أن الاعتذار عن الحضور يكون عن طريق رسالة موجهة إلى الرئيس، مع بيان العذر في أجل لا يتجاوز ثلاثة أيام من تاريخ الاجتماع، وبأن بيان الحضور يدون في التقارير التي تُرفع إلى المجلس، وأن أسماء المتغيبين تتلى في بداية الاجتماع الموالي للتغيب، وأن تنبيها كتابيا يوجه إلى النائب المتغيب بدون عذر مقبول. وكان القانون الداخلي قد أرسى آلية لم تجد لها سبيلا إلى التفعيل، وتتمثل في أن أسماء المتغيبين بدون عذر تنشر في النشرة الداخلية للمجلس، وقد يصل الأمر حد الاقتطاع من التعويض حسب عدد الأيام التي وقع خلالها التغيب بدون عذر، ويعلن عنه في جلسة عمومية وينشر في النشرة الداخلية والجريدة الرسمية. بطبيعة الحال لم يغفل القانون الداخلي الإشارة إلى بعض التدابير، التي من شأنها أن تحد من تغيب البرلمانيين، حيث أوضح أن هياكل المجلس ستقوم بمحاسبة البرلمانيين وإلزامهم بالحضور فقط في الجلسات العمومية المخصصة للتصويت على النصوص التشريعية وكذا ضبط الحضور بواسطة المناداة على الأعضاء بأسمائهم عند الشروع في عملية التصويت، تفعيلا للفقرة الثانية من المادة 60 من النظام الداخلي للمجلس، وفي الأخير قد يصل الأمر حد توجيه رسائل التنبيه لمن لم يعتذر منهم، بعد انصرام أجل ثلاثة أيام، المنصوص عليه في المادة 60 نفسها. ويبرز طارق أتلاتي، أستاذ العلوم السياسية، أن ظاهرة غياب ممثلي الأمة عن المؤسسة التشريعية يمكن أن تتخذ بعدين رئيسين: يتجلى الأول في أن هذا الغياب يؤثر بشكل كبير على القيمة الدستورية للبرلمان وتفقده مصداقيته على نحو ما، مضيفا أن الأحزاب السياسية هي المسؤولة بصورة أو بأخرى عن انضباط نوابها البرلمانيين. و«الأنكى من كل ذلك، ، أن العبثية بلغت أقصاها حين شرع العمال والولاة في الاتصال بالبرلمانيين للحضور إلى دورات البرلمان بغاية التصويت على مشاريع القوانين، مما يعني أن استقلالية السلطة التشريعية التي يمثلها البرلمان ليست إلا شعارا للترويج المناسباتي» يضيف أتلاتي. وختم أتلاتي تحليله للظاهرة بالقول إن «مواجهة غياب البرلمانيين لا يمكن أن تتأتى إلا بالتعامل بنوع من الحزم والصرامة القانونيتين لأن المغرب مقبل على مرحلة حساسة من تاريخه السياسي، وسيكون من المستحيل أن يتحمل مثل هذه السلوكات».