بدا على أعضاء جمعية ضحايا الألغام توتر واضطراب طيلة هذه الرحلة، التي قادتْنا إلى أماكن تنتشر فيها ألغام كانت سبب خط سطر أول في «كتاب حياتهم»، التي صارت أدهى وأمَرّ. في ضيافة الموت في السادسة صباحا، وقرب ثكنة الفوج السادس عشر للمشاة، التقينا ببعض ضحايا الألغام في الصحراء، قصد التوجه إلى منطقة الحوزة، التي تبعد عن السمارة ب100 كيلومتر. كانت هذه الأرض من أعتى ساحات الحرب بين الجيش المغربي والبوليساريو. اليوم هي أخطر بقعة في الصحراء، بسبب انتشار الألغام والقنابل العنقودية. «هذه المناطق التي تراها الآن كلها مليئة بالألغام. هنا في «الحوزة» و«الخريبيشات»، هناك قنابل عنقودية قابلة للانفجار بمجرد لمسها. المشكل هو أنه يصعب تحديد مكانها، بسبب تغيره نظرا إلى انجراف التربة، نتيجة سيول ويدان عدة، من بينها وادي الساقية الحمراء. هذه عوامل تفرض التعجيل بالتخلص من الألغام»، يقول الشيخ أحمد بليمام، وهو يترنّح على أنغام موسيقى «حسانية» صادرة عن مذياع سيارة ال«لاند روفير»، المتهالك، تقول: «المدارس عادتْ سْجون والمساجد عادت معتقلات»... أثناء حديثنا، مرت ثلاث سيارات «تويوتا» تابعة لقوات «مينورسو» في الصحراء. «إنهم يتنقلون يوميا إلى تندوف عبر «السنتور» (يقصد الحزام الأمني) ويسلكون معابرَ خالية من الألغام، يتوفر الجيش على خرائطها»، يقول زويدة، سائقنا في هذه الرحلة. يشير أعضاء جمعية ضحايا الألغام، الذين خاضوا مع «المساء» هذه الرحلة، إلى أنه لا أحد كان يجرؤ أن يمر بسيارته عبر هذه الطريق المعبّدة، الرابطة بين السمارة والحوزة، والسبب هو أن الألغام، لفرط انتشارها في هذا المكان، كانت مشتتة على امتداد الطريق. في الطريق إلى الحوزة، مررنا ب«وادي النبط»، المتفرع عن الساقية الحمراء. تظهر علامات تحذّر من الألغام وضعتها قوات «المينورسو» على جانبي الطريق، التي تقطع هذا الوادي. «مكث الجيش مدة ثلاثة أشهر، أبريل وماي ويونيو، من السنة الماضية، بغرض تنقية الوادي من الألغام المنتشرة فيه، والتي أوْدت بحياة كثير من المارة والرعاة»، يضيف زويدة. الجيش هو الذي يُدير أغلب عمليات تنقية هذه الفيافي الجرداء من الألغام. كما أنه هو الجهة الوحيدة التي تملك خرائط لحقول الألغام المنتشرة هنا ويحتفظ بها، بشكل حصري، يتعذر معه الحصول عليها. كلما اقتربنا من «السنتور»، كلما ارتفعت الحرارة. لهيب حار تنقله رياح قائظة قادمة من وراء الحزام الأمني على الحدود مع الجزائر. كلما تقدّمْنا في المسير، كلما ظهرت حقول ألغام أكثر، «في هذا المكان -ويسمى «الجحش»- (يشير إلى خلاء بجانب الطريق تحُدّه هضاب صخرية) تنتشر ألغام كان الإسبان قد «زرعوها» خلال تواجدهم هنا. كانوا يتخذون هذا المكان طريقا لمرور مرْكباتهم العسكرية وكانوا يلجؤون إلى وضع الألغام لتأمين طريقهم. هنا، انفجر لغم في وجه شخص ولج المكان لقضاء حاجته».. يردف زويدة، قبل أن يقاطعه الشيخ أحمد قائلا: «توجد في هذه المنطقة، أيضا، ألغام روسية الصنع مغلّفة بالبلاستيك، زرعتْها عناصر البوليساريو، يستعصي كشفها بآلات المسح التي تلتقط الحديد والمعادن». «هذا وادي كسات، حيث يتمركز الجنود المغاربة، هو، أيضا، مليء بالألغام.. هذه «قعيدة الجحوش».. وفيها، كذلك، ألغام، رغم أن الجيش أخلى أغلبها من الألغام في سنة 2009»، يشير زويدة إلى مناطق على جانبي الطريق على «الحوزة». لا يبدو أن هناك أرضا خالية من الألغام هنا. المكان الوحيد الخالي من الألغام على طول هذه الطريق المقفرة عبارة عن تل يوجد به لاقط هوائي كبير، يحرسه شاب. في هذا المكان، وجدنا ثلاثة عناصر من قوات «المينورسو» يتناولون فطورهم. هذا هو المكان الوحيد المؤمَّن في هذه المنطقة، الذي يضمن رجال «المينورسو» ويستطيع العابرون من هنا الاستراحة فيه دون التعرض لخطر انفجار. واصلنا الرحلة حتى منطقة «الحوزة»، التي لا يفصل بينها وبين الحزام الأمني سوى مسافة قليلة. مقر جماعة «الحوزة» على جانب الطريق. إلى جانبه، جلس عشرات الجنود قرب أمتعتهم تحت الشمس التي بدأت تشتدّ أكثر، ينتظرون إجلاءهم إلى مدن الداخل بعد انتهاء نوباتهم العسكرية. في الجانب الآخر من الطريق، أمام مقر جماعة «الحوزة»، ظهر بناء خرِب، بجانبه مدخل مظلم تحت الأرض، أحيط بسياج. خلف باب المدخل الحديدي بناء مكون من غرف عدة يظهر أنها تنتهي إلى إسطبلات، بحكم وجود أكوام تبن. «عاش الملك» تظهر العبارة واضحة في الحائط المقابل للمدخل من هذا البناء. «هذا هو المكان الذي كان يحتمي به محمد عبد العزيز المراكشي، رفقة قيادات البوليساريو، خلال المواجهات مع الجيش المغربي»، يقول رفقاؤنا. من هذا المكان، كانت قوات البوليساريو تنطلق في اتجاه مدينة السمارة والمدن المجاورة لها. وبسبب تمركز القيادة العسكرية لجبهة البوليساريو هنا، فقد كانت منطقة قتال محتدم. «كان الجيش المغربي يقصف هذه المنطقة بصواريخ عدة، بينها صواريخ مُحمَّلة بالقنابل العنقودية، وهذا ما يفسر انتشار هذه القنابل هنا وتسببها في مقتل أشخاص حتى اليوم»، يوضح أحمد الوعبان، أحد الضحايا الذين رافقونا في هذه الرحلة. في المقابل، كانت قوات البوليساريو تلجأ إلى تفخيخ محيط تواجدها بالألغام، حتى يتعذر على الجنود المغاربة الوصول إليهم. «كانت القيادات العسكرية للبوليساريو تضع كميات كبيرة من الألغام داخل حقائب ظهرية وتُلزِم جنود البوليساريو بحملها وزرعها في أماكن معلومة في الصحراء، لمنع تقدُّم الجنود المغاربة، غير أن هؤلاء الجنود كانوا يُلقون بالألغام بشكل عشوائي للتخلص من الثقل الكبير الملقى على ظهورهم. هذا ما يفسر وجود حقول ألغام خطيرة بدون خرائط حتى اليوم، وهذا ما أكده لي جنود بوليساريو شاركوا في هذه العمليات»، يكشف نور الدين ضريف، عضو المجلس الاستشاري للشؤون الصحراوية والكاتب العام المؤسس لجمعية ضحايا الألغام. هذه إذن، هي أخطر بقعة في المغرب، بل على وجه الأرض، كما تكشف تقارير دولية مختصة، والسبب تناثر ألغام وقنابل عنقودية لا خرائط لها. بدأت دقات القلب تتسارع كلما تقدمنا في المسير في اتجاه كثبان رملية وأشجار استقر قربها رعاة. قرب إحدى خيام الرعاة هاته، هالنا منظر لا يمكن رؤيته إلا في هذه البقعة من الأرض: بقايا ذخائر وصواريخ تحمل قنابل عنقودية منتشرة في المكان، يسميها الصحراويون «العنقود». لغم أرضي يظهر بلون أخضر باهت يتخفى بين الرمال والأحراش. لا تكاد العين تراه. قربه، كميات كبيرة من رصاص كبير الحجم، بعضه فارغ وبعضه ما يزال محشوا بالبارود وقابلا للانفجار. التحق بنا حارس مقر جماعة «الحوزة»، الذي نشأ على هذه الأرض. يقيم هذا الرجل في المكان الوحيد المحمي من الألغام هنا، وهو مقر جماعة «الحوزة»، الخالي من المكاتب والموظفين والمستشارين، البالغ عددهم 13. اتخذ الحارس هذا المقر مكانا لسكنه، نظرا إلى عدم تواجد الموظفين والمستشارين فيه. احتسيْنا أكواب شاي صحراوي في غرفة من المفترَض أن تكون مكتب رئيس جماعة «الحوزة»، قبل أن ينطلق بنا حارس الجماعة في جولة بين حقول الألغام والقنابل العنقودية المحيطة بمقر الجماعة. صار هذا الحارس يعرف جيدا أماكن وجود الألغام والقنابل العنقدوية. ببطء، تقدمنا خلف الحارس، خوفا من انفجار لغم. لا علامات تحذيرية هنا. الحرارة بدأت تشتد أكثر والخوف صار أكثر حدة. فجأة، يشير إلى مكان به أربعة كرات حديدية صدئة محاطة بحجارة: «هذه هي الألغام العنقدوية. يكفي تحريكها كي تنفجر بقوة. لا يمكننا إزالتها من هنا، وحدهما الجيش أو «المينورسو» من يملكان الوسائل لذلك. نكتفي بإحاطتها بحجارة. أي مكان تجده في الصحراء محاطا بحجارة، فاعلم أن فيه لغما أو قنبلة عنقودية»، يوضح حارس جماعة «الحوزة». «أغلب ضحايا هذه الألغام والقنابل هنا هم أطفال لا يمكنهم تمييزها أو تفاديها رغم إحاطتها بحجارة. يظنون أنها «لُعب» فيحاولون الإمساك بها فتنفجر في وجوههم. هذا ما حدث للوعبان، الذي أصيب بلغم عندما كان صغيرا»، يستطرد الشيخ أحمد. كيف صارت هذه البقعة من المغرب من بين أخطر مناطق الأرض؟ من وضع هذه الألغام والقنابل العنقدوية هنا؟ كيف تم ذلك؟ لماذا يتكتم الجيش على خرائط هذه الألغام؟ وما علاقة البوليساريو بهذا المشكل؟ خريطة الألغام حتى مدير قسم الشؤون العامة في عمالة السمارة نفسُه لا يتوفر على معطيات دقيقة حول خرائط الألغام وحقول القنابل العنقودية في هذا الجزء من الصحراء. أحالنا المسؤول على جمعية ضحايا الألغام، التي تشتغل على هذا الموضوع أكثر من الإدارة الترابية نفسها. الأمر مرتبط بحساسية الموضوع وتخصُّص القوات الملكية المسلحة فيه، كما كشف هذا المسؤول ل«المساء». باب الجيش موصد حتى في وجه العمالة والجمعية المختصة في ملف الألغام. الخرائط المتوفرة، والتي تخص فقط الألغام التي وضعها الجيش، محاطة بسياج من التكتم والسرية. الترسيم الذي يحدد حقول الألغام في الصحراء الآن يبقى تقريبيا، وهو ما كشف عنه مصدر مطّلع، أوضح أن حقول الألغام في الصحراء المغربية مقسمة إلى عدة أنواع، أولها ألغام وُضِعت خلال فترة الاحتلال الإسباني، لتأمين مناطقه وقواعده العسكرية في الصحراء التي كان يحتلها. خلال «حرب الرمال» (1963) بين المغاربة والجزائر على الحدود بين البلدين، وُضِعت ألغام على الحدود بشكل مكثف، لمنع تقدم جيشَي البلدين. ونظرا إلى كثافة هذه الحقول الملغومة، فقد عمدت الشركة الروسية التي أوكلت إليها مهمة تشييد الحزام الأمني إلى بناء الحزام فوق حقول الألغام دون إزالتها. تركت الشركة ذاتها، كما يكشف المصدر، ثلاثة معابر على طول الحزام الأمني مؤمَّنة من الألغام. هذه الممرات هي التي تستعملها سيارات «المينورسو» للتنقل بين المغرب والجزائر عبر الصحراء. ما تبقى من المناطق التي يوجد فيها الحزام الأمني هي أماكن ملغومة. غير أن أخطر الألغام هي تلك التي وضعتها قوات «البوليساريو»، والسبب أن مكانها غير معروف، حتى واضعوها لا يمكنهم تحديد مواقعها، على اعتبار أنها وُضِعت بشكل عشوائي. كان الغرض من وضع هذه الألغام، خاصة في المناطق الحدودية المجاورة لمخيمات «تندوف» هو منع المحتجزين في المخيمات من الفرار والعودة إلى المغرب. الجيش في المقدمة المغرب ليس عضوا في المعاهدة الدولية لحظر الألغام، رغم أنه يصوت بشكل تطوعي على تقارير المرصد الدولي السنوية ويزود المنظمات الدولية الناشطة في هذا المجال بمعلومات. كان آخر تصويت في 16 يونيو من السنة الماضية. سبب عدم مصادقة المغرب على هذه الاتفاقية، كما يكشف مسؤولون رسميون، بينهم جنرالات موجودون في المنطقة العسكرية الثانية والثالثة في الصحراء المغربية ومدير قسم المنظمات الدولية في وزارة الخارجية لمنظمة مكافحة الأسلحة وآثارها، هو نزاع الصحراء، فحسب تقرير المنظمة، الذي توصلت «المساء» بنسخة منه، فلا يمكن للمغرب التوقيع على الاتفاقية ومشكل الصحراء ما يزال قائما، بمعنى أن المغرب ما يزال في حالة حرب مع البوليساريو. المغرب من بين أخطر المناطق على وجه الأرض، حسب هذا التقرير، والسبب كثرة حقول الألغام فيه، إلى درجة أن مدنا ومخيّمات أقيمت فوق مناطق زُرِعت فيها ألغام، كما هو «مخيم الربيب»، في مدخل مدينة السمارة، من جهة العيون، والذي سبق أن وقعت فيه حوادث انفجار ألغام راح ضحيتَها بعض سكانه. رغم أن المغرب لم يوقع بعد على الاتفاقية الدولية إلا أنه دخل، فعليا، في تطبيقها، فعندما استفسرت البعثة الخاصة بالمرصد الدولي للألغام المسؤولين المغاربة، في ماي 2009، إن كانت الدولة المغربية تحتفظ بألغام من أجل استعمالها ضد الأفراد مستقبلا، أجاب المسؤولون: «لا». هذا ما ورد في التقرير على لسان أعضاء البعثة المغربية الدائمة في الأممالمتحدة، والذين أكدوا أن المغرب وقف استعمال وتخزين الألغام المضادة للأفراد منذ سنة 1987، كما أنه لم ينتجها قط، مؤكدا أن القوات المسلحة الملكية توقفت عن استخدما الألغام المضادة للأشخاص منذ توقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو، سنة 1991. في المقابل، صرح المسؤولون المغاربة لمبعوثي المنظمة الدولية بأن القوات الملكية المسلحة تتوفر على كميات من الألغام المضادة للأفراد، تُستعمَل في تدريب الجنود قصد المشاركة في عمليات حفظ السلام، غير أن المسؤولين المغاربة لم يكشفوا عن عدد هذه الكمية من الألغام، والتي قالوا إنها «خامدة» وغير قابلة للانفجار. كان آخر اتصال بين المنظمة الدولية المعنية لمكافحة الألغام والمسؤولين المغاربة، كما كشفت الوثيقة التي حصلت عليها «المساء»، في مارس الماضي. كان هذا الاتصال عبارة عن رسالة موجهة إلى المرصد الدولي للألغام من قِبَل أعضاء البعثة المغربية في الأممالمتحدة في جنيف، جاء فيها أن الحكومة المغربية تعتبر الانضمام إلى اتفاقية مكافحة الألغام هدفا إستراتيجيا مرتبطا، أساسا، بتوفير الضروريات الأمنية لحماية الأقاليم الجنوبية، أي أن وضع حد نهائي لمشكل الألغام في الصحراء مرتبط بالقضاء على البوليساريو. وفي نونبر الماضي -تكشف الوثيقة- صرحت بعثة حكومية، قابلت ممثلي المرصد الدولي للألغام، أن المغرب يبحث إمكانية الخروج بقرار نهائي متعلق بالانضمام إلى اتفاقية حظر الألغام، مشيرة إلى أن المغرب سيواصل نهج سياسة متطابقة مع ما تنص عليه الاتفاقية الدولية. يعكس هذا الحراك الدبلوماسي والعسكري مدى خطورة مشكل الألغام في المغرب، خطورة تنعكس، بدورها، على صفحات التقرير الذي أمدّتْنا به المنظمة الدولية، والذي يرصد كميات ومواقع الألغام في الصحراء المغربية. استند التقرير إلى تقرير آخر حديث لمنظمة مواجهة العنف العسكري البريطانية، أشارت فيه إلى أن الصحراء المغربية، رغم حملات التنقية التي يقوم بها الجيش المغربي، ضد ألغام وقنابل عنقودية من نوع «CBU-71» و«BLU-63» أمريكية الصنع، فضلا على ذخائر صغيرة عدة من عيار 155 مليمترا، من نوع «M483A1»، وقذائف «هاون» غير منفجرة، وهي القنابل والذخائر هي التي عثرت عليها «المساء» خلال جولتنا في مناطق «الحوزة» الملغومة قرب مدينة السمارة. ألقي بالقنابل العنقودية الموجودة في مناطق مختلفة من الصحراء المغربية، يوضح التقرير ذاته، على مواقع البوليساريو خلال الحرب التي دارت ما بين 1975 و1988. فقد قصفت القوات المسلحة الملكية الجوية، ما بين 1980 و1981 تحديدا، مناطق عدة، من بينها «الحوزة» و«كلتة زمور» و«المسيد»، بقنابل عنقودية فرنسية الصنع، بينما تم قصف مواقع البوليساريو في بوكراع، الواقعة بين السمارةوالعيون، بقنابل عنقودية أمريكية. وكشف التقرير ذاته، بالاستناد إلى تقارير إدارة الدفاع الأمريكية، أن الولاياتالمتحدة هي المزود الرئيسي للمغرب بهذه الذخائر، في الفترة ما بين 1970 و1995. ورغم أن القوات المسلحة المغربية لم تُطْلع أحدا على كمية هذه القنابل العنقدوية والذخائر والألغام، فإن الوثيقة التي تم الحصول عليها من مصلحة الدفاع الأمريكية أشارت إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية المغربية زوّدت المغرب بمليونين ونصف المليون لغم وقنبلة عنقدوية... أزيد من مليونين ونصف مليون لغم وقنبلة عنقدوية منتشرة في الصحراء، إذن، دون احتساب الألغام التي وضعتها جبهة البوليساريو بشكل عشوائي، والألغام التي سبق لإسبانيا أن وضعتْها إبان احتلالها الصحراء المغربية، إلى جانب الألغام والقنابل العنقودية التي زرعها وألقى بها الجيش الجزائري على الحدود مع المغرب خلال «حرب الرمال» سنة 1963. خلّفت هذه الكمية الكبيرة من المتفجرات خسائر بشرية ومادية كبيرة منذ استقدامها واستعمالها في الصحراء المغربية سنة 1970. أمرٌ فرض على القوات الملكية المسلحة بدء خطة واسعة لتنقية الصحراء من الألغام والقنابل العنقودية والذخائر. وحسب آخر تصريح للمسؤولين المغاربة حول عملية التخلص من الألغام، أدلوا به للمرصد الدولي للألغام في شهر أبريل الماضي، فإنهم «نقّوا» 120 ألف كيلومتر مربع، وهو ما يشهد به من رافقوا «المساء» في الرحلة التي خضناها في المناطق «الملغومة» من الصحراء المغربية، والذين أكدوا تقلّص أعداد الألغام والقنابل التي كانت موجودة بكثرة من قبل. وأكد نور الدين ضريف، الأمين العام السابق لجمعية ضحايا الألغام وعضو «الكوركاس»، ل»المساء»، أن العمليات التي يقودها الجيش لتنقية الصحراء من الألغام تضاعفت بشكل كبير سنة 2007، والسبب وفاة مسؤول مغربي بسبب لغم. ويتعلق الأمر بمحمد خطري ولد الجماني، رئيس جماعة «كلتة زمور»، التابعة لجهة العيون -الساقية الحمراء، والذي انفجر فيه لغم في مطلع 2007، في منطقة «الحوزة»، التي تجولت فيها «المساء». توفي الجماني، الذي كان عضوا في المجلس الملكي للشؤون الصحراوية، على الفور، بينما نُقِل ثلاثة أشخاص، كانوا رفقته على متن سيارة دفع رباعي، إلى المستشفى في حالات حرجة. وخلال الأسبوع ذاته، قُتلت فتاة وأصيب ذووها بجروح بعدما تفجر فيهم لغم قرب مدينة الداخلة. حدثان متسارعان دفعا الملك محمد السادس إلى إعطاء أمره للقوات المسلحة بالتسريع من وتيرة تنقية الصحراء من الألغام. وساهم حادث آخر في انطلاق عمليات تنقية منطقة الحزام الأمني من الألغام، ويتعلق بمقتل مسؤول جزائري رفيع المستوى بلغم بهذه المنطقة. تُبيّن آخر الأرقام التي ذكرها التقرير، الذي حصلت عليه «المساء»، كيف أن المغرب تَمكّنَ، في ما بين 30 مارس 2010 والتاريخ ذاته من سنة 2011، من تنقية 669 كيلومترا مربعا إضافية من الألغام. أفضت هذه العملية إلى التخلص من ألف و171 لغما مضادا للأفراد ومن 6 آلاف و799 لغما مضادا للمركبات، وجمع 963 ذخيرة غير متفجرة، أو ما يصطلح عليه ب«أوكسو»، رغم أن العديد منها ما يزال منتشرا في الصحراء المغربية، وفق ما عاينته «المساء»، كما يقوم سكان هذه المناطق بجمع هذه الذخائر بغرض استعمالها في أغراض صناعية. ما تزال كمية كبيرة من الألغام والذخائر والقنابل العنقدوية منتشرة على طول وعرض الصحراء المغربية، وهو ما دفع الجيش المغربي، في أبريل الماضي، إلى الترحيب بمساعدات في هذا المجال، حسب ما أفاد التقرير الذي حصلت عليه «المساء»، والذي كشف كون الجيش المغربي لا يضم سوى 10 آلاف عسكري متخصصين في كسح الألغام، يشتغلون ب400 آلة كشف للألغام المعدنية فقط. ويقوم الجيش بهذه الحملات التمشيطية، فضلا على عمليات أخرى تنفذها القوات التابعة لل«مينورسو» وتتمثل، أساسا، في وضع لافتات تحذر من وجود الألغام في مناطق معينة من الصحراء، مكّنت من تقلص عدد الضحايا. واليوم، لا تتجاوز عدد الوفيات الناجمة عن الألغام والقنابل العنقدوية اثنتين أو ثلاث وفيات في السنة. أما الحصيلة الإجمالية الرسمية التي أسرّ بها المسؤولون المغاربة للمرصد الدولي للألغام، حتى حدود يوليوز 2008، فهي 2187 ضحية، بينهم 544 قتيلا، وألف و1643 جريحا، ما يزالون، حتى اليوم، يعانون من عاهات مستديمة، تبدأ من صداع نصفي ورهاب وأزمات نفسية، مرورا بتشوهات جسدية، وصولا إلى فقدان أطراف وأعين وأجزاء مختلفة من أجسادهم.. صغار قُطعت أوصالهم وهم يلعبون بكرات معدنية انفجرت بين أيديهم في لحظات لهو.. رعاة كانوا يبحثون لهم عن مراعٍ جديدة.. أرامل فقدن أزاوجهن.. عائدون إلى حضن الصحراء بنوا مخيماتهم فوق حقوق الألغام.. زوار أغراهم سكون الصحراء فأشقاهم الموت الرابض في تخوم المنطقة. آلاف المعطوبين والمشلولين والعميان، بعضهم عُوضوا وآخرون ينتظرون.. وتلك حكاية أخرى...