قلنا في الحلقة السابقة بأن العلاج الدوائي هو العلاج الأساس لمرض الفصام، بل لا يمكن أن يعالج بدونه. وقد أدت الثورة الحديثة في الدوائيات النفسية إلى اكتشاف عدد من الأدوية المضادة للفصام تسمى مضادات الذهان غير التقليدية أو الحديثة وتسمى أيضا الجيل الثاني من مضادات الذهان، استطاعت تجاوز السلبيات المعروفة لمضادات الفصام التقليدية. لقد كانت الأدوية التقليدية تؤثر في المخ على مستقبلات معينة لمادة الدوبامين. أما الأدوية الحديثة فتؤثر على مستقبلات مواد أخرى إضافية مثل السيروتونين وغيرها. وهذا ما جعل تأثيراتها أكثر فاعلية وتوازنا. وترتكز الخطة العلاجية الحديثة لمرض الفصام على الوعي بالحقائق التالية وتنزيلها على أرض الواقع: أولا - يهدف تناول الدواء إلى أمرين أساسيين هما: أولا معالجة النوبة الحادة الحالية، ثانيا الوقاية من أي انتكاسة مستقبلية للمرض. ومرض الفصام كثيرا ما يتطور على شكل نوبات متتالية بينها فترات هدوء ورجوع إلى حالة شبه طبيعية. ولذلك فإن تحسن النوبة الحالية لا يجب أن يدفع إلى التقليص من الدواء أو توقيفه دون دراسة جيدة. وهذا الأمر يرجع فيه إلى الطبيب المعالج. ثانيا – إن مشكلة مرض الفصام الحقيقية لا تتمثل فقط في الأعراض الحادة التي تثير الانتباه، مثل القلق والتهيج وردود الفعل العنيفة والهلاوس، بل المشكلة الأكبر هي في الأعراض السلبية والانسحابية التي تؤدي إلى تدهور قدرات الفرد الذهنية والعاطفية وتدهور علاقاته بالآخرين، وانعزاله وإهماله لدراسته وعمله. والفصام في هذه الحال قد يشبه إلى حد ما مرض الاكتئاب الذي يكون معه المريض خاملا، لا مباليا، منعزلا عن الناس، فاقدا للحيوية، عاجزا عن الإنتاج، بطيء العمليات الذهنية. لكن هذه الأعراض الانسحابية على الرغم من كونها الأكثر خطورة والأبعد تأثيرا في حياة المريض لا تستأثر بالاهتمام الضروري. ومن إيجابيات الأدوية مضادات الذهان الحديثة أنها تخفف منها على عكس الأدوية التقليدية. ثالثا - إن لكل مريض خصوصياته، وبالتالي فإن العلاج يجب أن يكيف حسب كل حالة، سواء تعلق الأمر بنوع الدواء أو بمقاديره. فما يحسن حالة مريض قد لا يحسن حالة مريض آخر. ومن هنا فإن ما يقوم به الطبيب هو البحث عن المعادلة الدوائية الأمثل والأفضل. وقد يستغرق ذلك بعض الوقت، وهو وقت قد يمتد أحيانا شهورا وشهورا، لكنه ضروري ويحتاج إلى الكثير من الصبر. ومع مرور الوقت يمكن تخفيض مقدار الدواء المتناول ليحتفظ بكمية تكفي للحفاظ على توازن حالة المريض واستقرارها. رابعا – إن من إيجابيات الأدوية المضادة للذهان الجديدة أو غير التقليدية أنها تحسن الأعراض السلبية، وبالتالي فهي أقدر من غيرها على مساعدة المريض حتى يمارس حياته بشكل شبه طبيعي أو عادي. كما أن من إيجابياتها الاختفاء التدريجي للآثار السلبية لبعض الأدوية المضادة للذهان والتي تحول المريض أحيانا إلى ما يشبه الإنسان الآلي. وهكذا تدل الدراسات والتجارب العملية معها على تحسن نوعية حياة المريض بشكل ملحوظ. خامسا - يحتاج المريض إلى فترات طويلة من العلاج، وبعض المرضى يعالجون طوال حياتهم، ولا بأس في ذلك ولا ضير فكثير من الأمراض العضوية أيضا يتناول مرضاها دواءهم طول حياتهم دون مشكلة. وهم مع تناولهم الدواء يوميا يستطيعون الذهاب إلى عملهم والقيام بواجباتهم بدرجة مقبولة. سادسا - أثبتت الدراسات المتعددة أن 75 بالمئة من المرضى الذين تتعقد حالتهم وتستلزم الإدخال إلى المستشفى، لا يتناولون الدواء بانتظام. وأهم الأسباب وراء ذلك ما يلي: عدم الوعي بالمرض أو إنكاره تماما، أفكار أو معتقدات سلبية لدى المريض تجاه الأدوية المستعملة، الموقف السلبي للأسرة تجاه الأدوية، الأعراض السلبية للأدوية مثل الارتعاشات ونقص الطاقة الجنسية وزيادة الوزن العزلة الاجتماعية، غياب المعلومات الدقيقة عن طبيعة المرض والفوائد المرتقبة باستعمال الأدوية. وجود اضطرابات نفسية أخرى مثل الاكتئاب، القلق. ولا يمكن أن نقيم بطريقة موضوعية وصحيحة فوائد التقدم الذي حصل في العلاج بالأدوية الحديثة إلا إذا قارنا بما كان عليه العلاج قبل عشرين سنة فقط. وبذلك يمكن أن نعرف أنها غيرت حياة مريض الفصام وحياة أسرته نحو الأحسن. وإن الأمل في المستقبل كبير في اكتشاف المزيد من العلاجات التي تخفف أكثر عن هؤلاء المرضى وغيرهم. وفضل الله كبير وواسع.