قبل بضعة أشهر، ما كان أحد ليتنبأ، ولا حتى كبار المفكرين والمنظرين، بأن العالم العربي سيشهد انفجار سلسلة من الثورات التي ستطيح بأعتى الأنظمة الدكتاتورية. فمن تونس الخضراء، هذا البلد الهادئ المسالم، فاح عطر ياسمين الثورة ليتزين به كل مواطن عربي يطمح إلى العزة والكرامة. من هنا، انطلق قطار ثورة الإصلاح والتغيير ليقل على متنه كلا من زين العابدين وحسني مبارك ويتخلى عنهما في محطة مهملات التاريخ، في انتظار أن يلتحق بهما القذافي وبشار الأسد وعبد الله صالح. لم نكن لنتصور يوما أن هذا المواطن العربي، الذي نشأ في جو من القمع والخوف والذي طالما صورته قوى الغرب على أنه شخص غير قابل للتطور والإصلاح، يميل أكثر إلى الخنوع والانبطاح، سيتمرد بهذه الصورة المبهرة على قوى الظلم والاستبداد ويقدم دماءه قربانا في سبيل استعادة حريته وكرامته. لقد ذكرنا شباب الثورة وشيوخها، نساؤها وأطفالها، بأن قيم الكرامة والإنسانية هي أسمى من أن تداس بالأقدام مهما بلغت أنظمة الحكم من بطش وجبروت، وأن فجر العزة والكرامة لا بد له أن يبزغ مهما بلغت ظلمة الليل ووحشته. أمام كل هذا الحراك السياسي الذي أفرزه الربيع العربي، ظل الجميع يترقب ردة فعل الشارع المغربي وكيفية تفاعله مع الأحداث العربية. فما هي إلا بضعة أسابيع حتى ظهرت حركة 20 فبراير التي نزلت إلى الشارع للتعبير عن سخطها، مطالبة بإصلاحات جذرية، رغم العديد من الانتقادات التي وجهت إليها ومطالبة مجموعة من القوى الحية بالقضاء عليها في الرحم حتى لا يتجدد نفس سيناريو تونس أو مصر. والحقيقة أن المتتبع لمسلسل الأحداث في المغرب يمكنه الجزم بأن هذه الحركة استطاعت، وفي وقت قياسي جدا، أن تحقق ما عجزت معظم الأحزاب السياسية عن تحقيقه خلال ستين سنة من الممارسة السياسية ولن أقول النضال السياسي فشتان ما بين الممارسة السياسة، التي تعتمد أسلوب التطبيع مع أجهزة النظام، وفي أحسن الأحوال تنتهج مبدأ التقية، وبين النضال السياسي الحقيقي الذي يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار ويتنزه عن كل ما هو ذاتي. فمنذ عشرات السنين، لم تستطع أي هيئة سياسية أن تعبئ كل هذا العدد الهائل من المواطنين الذين تحدوا تهديدات قوى الأمن ونزلوا إلى الشارع ليهتفوا بشعار واحد: الشعب يريد إسقاط الفساد. فكانت النتيجة أن تم الإفراج عن عشرات المعتقلين السياسيين، إضافة إلى خلق حركة احتجاجية واسعة، شملت شتى القطاعات وانتشرت في جميع ربوع المملكة. ولعل الأهم من كل هذا وذاك، فتح العاهل المغربي ورش إصلاح الدستور كخطوة أساسية لبناء دولة الحق والقانون من خلال الخطاب التاريخي ل9 مارس في ملحمة رائعة بين ملك وشعبه، علما بأن الأغلبية الساحقة من الأحزاب لم تضع هذا المشروع ضمن أجندتها المطلبية، واعتبرت أن الوضع غير ملائم للحديث عن إصلاحات دستورية. لكن ما يثير الدهشة والامتعاض في آن واحد أن نفس هذه الأحزاب أطلت اليوم علينا، عبر مختلف المنابر الإعلامية، لتتغنى بالإصلاح الدستوري وكأنه من إبداعها واقتراحها، في محاولة بائسة لإيهام الشعب بدورها في الإصلاح. لكننا نجيبها: أين كانت مقترحاتك للدستور قبل نشأة حركة 20 فبراير؟ ولماذا لم تتخذي المبادرة إلى فتح هذا الورش الحيوي من أجل بناء مغرب ديمقراطي؟ إن الأمانة التاريخية تفرض علينا الاعتراف بفضل شباب حركة 20 فبراير في انتعاش الحياة السياسية التي كانت في حالة احتضار، فلولاها لما عشنا كل هذا الزخم المطلبي الذي اكتشفناه اليوم. لذلك، نرفض الالتفاف على منجزاتها لتنسب إلى غيرها، فمشروع إصلاح الدستور ظل لسنوات من الطابوهات السياسية التي تتجنبها أغلب القوى الحية وتعتبرها حقلا مليئا بالألغام، لا طاقة لها به، خوفا من سخط المخزن، كما أن أي محاولة لمراجعته ظلت مرادفة للمس باختصاصات الملك، وهو ما شكل لديها فوبيا اسمها مراجعة الدستور. الآن، وبعد الإعلان عن الدستور الجديد، هل يمكننا القول إن المغرب يسير نحو إرساء دعائم دولة ديمقراطية تنعم بالعدل والمساواة؟ مما لا شك فيه أن استجابة العاهل المغربي للمطالب الشعبية، ولو جزئيا، وإعلان نيته تغيير الدستور يبقيان حدثا بارزا في تاريخ المغرب. كما أنه، بغض النظر عن النقائص التي يمكن أن نسجلها على هذا النص، لا يسعنا سوى أن نثمن الخطوة التي أقدم عليها ملك البلاد، لكن يكفي في المقابل أن نستحضر التاريخ السياسي والواقع المغربيين لنكتشف أن التغيير لا يمكن أن يتحقق فقط عن طريق مراجعة النصوص القانونية أو الدساتير. صحيح أن الخطوة جبارة وضرورية من أجل الارتقاء بهذا الوطن إلى ما هو أسمى، لكن الرهان الأساسي هو ضمان حسن تطبيق هذا النص. فنتساءل اليوم، هل يتوفر المغرب على الآليات والوسائل التي ستمكن من تفعيله على أرض الواقع؟ وهل هناك إرادة سياسية فعلية من أجل تقويم المسار الإصلاحي؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون سحابة تغيير عابرة من أجل امتصاص حماس الشعب، في انتظار أن يكشر المخزن عن أنيابه حالما تهدأ الأوضاع. نستطيع الجزم بأن أي دستور، مهما بلغت درجة تطوره، لا يمكنه أن يحقق النتائج المتوخاة إذا لم نهيئ الأرضية الخصبة لغرس مبادئه في ثقافة المواطنين والمؤسسات. ويكفي في هذا السياق التذكير بأن دستور 1996 لم يخل من مبادئ سامية تدعو، مثلا، إلى احترام حقوق الإنسان وضمان المحاكمة العادلة ومبادئ المساواة وسمو القوانين وحرية الرأي، إضافة إلى مبادئ أخرى، لكن كل ذلك لم يمنع من تسجيل مجموعة من الخروقات والانتهاكات. فما مصير الحق في التعليم والتطبيب والشغل والحماية الاجتماعية؟ وهل استطاعت الترسانة القانونية المتوفرة حاليا أن تحمي المواطن من بطش الإدارة ونفوذ أصحاب الجاه والمال؟ وهل تم فعلا تحقيق المصالحة الاجتماعية بين جميع مكونات المجتمع المغربي وضمان الحريات والحقوق؟ إن جميع المتتبعين للشأن الوطني يجمعون على أن وتيرة النمو والتطور في المغرب لازالت بطيئة جدا بشهادة المنظمات الدولية، ويرجع ذلك بالأساس إلى مجموعة من المعوقات التي تشل تطوره، كتفشي الأمية والجهل والرشوة والمحسوبية والزبونية، إضافة إلى وجود لوبيات تحول دون تحقيق التغيير لما في ذلك من تهديد لمصالحها الشخصية، علاوة على تقييد حرية الرأي والتعبير وعدم المساواة أمام القضاء. يتبع... سعد بلقاسمي - محام بهيئة الدار البيضاء