هم نجوم رمضان بدون منازع، يسرقون خلال الشهر الفضيل الأضواء من كبار الأسماء في الغناء والسينما أو حتى في الرياضة، وينالون بذلك قسطا مهما من اهتمامات الصائمين... إنهم أئمة مساجد صاروا أشهر من نار على علم، يقصدهم الخاص والعام، ويتسابق على الصلاة خلف منابرهم من استطاع إلى ذلك سبيلا ومن لم يستطع، إلى درجة يذهب معها الكثير إلى الإفطار وأداء صلاة المغرب بواحد من مساجد هؤلاء «النجوم»، وذلك حرصا على ضمان مكان يمكن انطلاقا منه سماع صوت الإمام بوضوح والاستمتاع به. «المساء» التقت بعينة من هؤلاء وحاولت الغوص في حياتهم الخاصة. تسهل الصعاب وتذلل العقبات أمام قوة الإرادة والثبات على العزيمة، إلى درجة يُفهم معها عند الوقوف على حالات بعض ممن ينتشرون في الأرض طلبا للعلم، خاصة الشرعي منه، أن شوك الطريق يغدو بالنسبة إليهم وردا زاهيا، ومخاطر السير تصبح هي الأخرى محطات أمن وأمان، فلا ضجر ولا ملل ولا عصيان، هنالك فقط الانتقال ببساطة ويسر من هاته المدينة إلى تلك ومن هذا الشيخ إلى ذاك. إن تجاوز العقبات التي تعترض أي إنسان في حياته بشكل عام وأي طالب علم على وجه الخصوص، لا يرتبط البتة بعامل السن بقدر ارتباطه بعامل الإصرار على تحقيق الأماني، وبقدر ما تكون الرغبة شديدة تتقلص المسافات الزمنية بين مرحلتي التخطيط والتنفيذ إلى درجة لا يستغرب معها وقوف شباب صغار بأماكن ومنصات جرت العادة أن يعتليها الكبار. هذا القول يشمل جميع مناحي الحياة، وإن كان ما يهمنا في هذه الزاوية هو السير في مسيرات أهل القرآن والوقوف معهم في أهم المحطات التي بصمت بقوة مشوار كل واحد منهم، حتى إنه ليُستشف أن قصة طالب القرآن الفلاني لا تشبه في شيء قصة الطالب الآخر، بالرغم من كون المادة التعليمية التي تعطى لهؤلاء الطلبة هي نفسها التي أعطيت لمن قبلهم وستعطى لمن سيلحقون بهم، إنها المادة التي تدرس منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا.. إنها القرآن وما يرتبط به من علوم، ومع ذلك لم يثبت عبر التاريخ الإسلامي كله أن فقيها ما شكل نسخة طبق الأصل لفقيه آخر، بل يطول الحديث حول قوة الحفظ لدى هذا الاسم مقارنة بمن زامنه أو حول البلدان والأمصار التي زارها هذا القارئ أو الإمام وغيرها من الأماكن التي لم يزرها، بل شكلت مقصدا لغيره من المشتغلين معه في ذات الحقل.. وهكذا يطول الحديث، لِيُستخلص أن قصة كل شخص هي شأن خاص به، وأن أحداثها ما كانت لتقع لغيره، وأن كل ذلك قد يكون من قبيل القضاء والقدر ومن توقيع المشيئة الإلهية التي ترسم لكل شأنا يعنيه. مناسبة الحديث هي الوقوف عند شاب قاصر، إلى حدود بداية رمضان الجاري، على الأقل، باعتباره مزدادا في الثالث من الشهر الثامن لعام 1993، والذي يؤم اليوم الآلاف من المصلين، بل إنه أمَّهم زهاء عشر سنوات، عندما تم الدفع به إلى الوقوف في محراب الإمامة وهو طفل صغير، جذب صوته الطفولي وقراءته العذبة لآي القرآن العديد من المحبين الذين ظلوا أوفياء لإمامهم الصغير، يصطفون خلفه حيثما رمت به الأقدار في الساحات أو المساجد، دون أن ينال منهم زخرف مكان ما وإن قرب أو صوت إمام ما وإن اشتهر.. إنه ابراهيم سهيل، الإمام المشفع بإحدى الساحات الشهيرة في منطقة بوركون بالدارالبيضاء، والتي يتم فيها تقديم الإفطار مجانا لما يزيد على ألف صائم يوميا، بإشراف من «جمعية الوفاق للصناعة التقليدية» في المنطقة.. هو ثاني إخوانه الخمسة، المولود لأب حامل للقرآن الكريم لم تلهه تجارته التي يمارسها عن الاهتمام بعلاقته المميزة أصلا بكتاب الله، فنذر له ابنه وسعى وراءه بكل قوة لتمكينه من الوصول حيث هو الآن.. إمام حافظ للقرآن. اجتمعت رغبة الأب والابن إذن، وكان القرار الأول تعويض الذهاب إلى المدرسة العمومية باللجوء إلى «الجامع»، فالتحق سهيل لحظتها بكُتاب «الإمام الشاطبي» الذي يشرف عليه الفقيه ابراهيم بومعيز، ومكث هنالك زهاء عام، ليعود بعدها إلى بيت الأسرة الذي يشكل امتدادا ل«الجامع» ما دام الوالد فقيها ولا يتوانى في مراجعة القرآن مع ابنه آناء الليل وأطراف النهار.. قدَرُ ابراهيم سهيل، الذي لاح له منذ بداية عهده بالقرآن، هو الترحال، إذ لا يكاد يلتحق بكتاب حتى يشرع في الاستعداد للالتحاق بغيره، وذلك لأسباب موضوعية وخاصة، صبت جميعها في الهدف ذاته، هكذا إذن انتقل الطفل رفقة أسرته إلى حي الأسرة، وهنالك التحق بكتاب «عبد الله بن كثير المكي» ليقيم به حوالي سنتين، غادر بعدهما إلى حي سيدي معروف. بعد ذلك بقليل، سافر صاحبنا إلى مدينة طنجة، قاصدا الشيخ البُحياوي، وهنالك أقام زهاء ستة أشهر لأن شيخه كان كثير الترحال إلى خارج المغرب، ليُتم بعدها الستة أشهر الأخرى في مؤسسة «الإمام مالك»، ويعود مباشرة إلى البيضاء رفقة أسرته التي كانت قد لحقت به. وفي المدينة الكبرى، اعتكف سهيل رفقة الوالد بالمنزل، وأخضعا نفسيهما لبرنامج صارم، تم فيه الاطلاع على صحيح البخاري والفقيه السيوطي وألفية بن مالك، ناهيك عن الأجرومية. وفي عام 2009 توجه سهيل جنوبا، مبعوثا من الشيخ الكرعاني إلى أكادير ليؤم الناس في صلاة التراويح بمسجد «المحسنين»، وحيث إن الإمام الصغير أُعجب بعاصمة سوس، فقد راح يبحث عن مؤسسة يكمل فيها تعليمه، ولاسيما أن والديه وكعادتهما قد التحقا به، فتم التسجيل بمؤسسة «الحسنية»، إلا أنه ولسوء الحظ -يقول سهيل- فقد أغلقت المؤسسة أبوابها بعد أقل من عام على ولوجه إياها، فكانت الوجهة إلى الشيخ حسن الشنقيطي الذي على يديه درس ابن مدينة الدارالبيضاء الأجرومية والزواوي والألفية، شرحا وحفظا. من جديد ضاقت الأرض بسهيل وغادر إلى مراكش، ملتحقا ب«جمعية ابن عبد البر»، وبعدها بالشيخ عبد الله الأنصاري الذي ختم على يديه رواية الأصبهاني وورش بالأوجه. وعاد طالب القرآن، بعد طول حل وترحال، إلى مدينته الأم ممنيا النفس بالتوجه إلى المدينةالمنورة، فور نهاية رمضان الجاري، وذلك بغية مواصلة اغتراف القرآن، ببعد دولي هاته المرة. لابراهيم سهيل العديد من المشاركات المتميزة في مسابقات القرآن، كحصوله على المرتبة الأولى لثلاث سنوات متتالية في مسابقة «محبة بلادي» التي نظمها المجلس العلمي للدار البيضاء في السنوات الأخيرة، لكن الإنجاز الأهم يبقى هو الفوز بالرتبة الأولى في «جائزة محمد السادس لحفظ القرآن وتجويده وترتيله» لعام 2007.