حدثت هذه الواقعة يوم 17 نوفمبر عام 2004. كان العسكري المجند عامر أبوبكر عامر واقفا في نوبة حراسته في مدينة رفح المصرية، ومعه زميلاه المجندان علي صبحي النجار ومحمد عبد الفتاح. في الساعة الثالثة صباحا، لمحوا دبابة إسرائيلية من طراز «ميركافا» تقترب منهم حتى أصبحت على مقربة عشرين مترا، ثم أطلقت نحوهم دانة مدفع أعقبتها بإطلاق نيران كثيفة.. أدى القصف إلى استشهاد المجندين علي صبحي ومحمد عبد الفتاح فورا، أما عامر أبوبكر فقد أصيب بجراح بالغة أدت فيما بعد إلى استشهاده في المستشفى.. هذه واحدة من حوادث عديدة اعتدت فيها إسرائيل على ضباط وجنود مصريين على الحدود، فأصابتهم وقتلتهم، وفي كل مرة كانت الجريمة تمر بلا عقاب.. وعودٌ بتحقيقات وبضعُ كلمات تعبر عن أسف الحكومة الإسرائيلية، ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد.. في أعقاب أحد هذه الاعتداءات التقى حسني مبارك بصديقه العزيز بنيامين نتنياهو، وبعد أن انتهى الاجتماع سأل صحفي أجنبي «مبارك» إن كان قد تحدث مع نتنياهو عن الشهداء المصريين الذين قتلتهم إسرائيل، عندئذ قال مبارك باستخفاف: وماذا تريد لنتنياهو أن يفعل؟!.. لقد اعتذر وانتهى الأمر. كان حسني مبارك يبذل كل ما في وسعه لإرضاء إسرائيل حتى وصفه أحد القادة الإسرائيليين بكونه «كنزا استراتيجيا للدولة العبرية».. أفرج مبارك عن الجاسوس عزام عزام ولم يطالب إسرائيل بأي تعويضات عن الأسرى المصريين الذين قتلتهم أثناء حروبها مع مصر، وأعاد السفير المصري إلى تل أبيب، ووقع اتفاقيات الغاز بأسعار أقل من الأسعار العالمية، ومارس ضغوطا شديدة على حركة حماس إرضاء لإسرائيل. كان هدف حسني مبارك من إرضاء إسرائيل أن يكسب إلى صفّه اللوبي الصهيوني في الإدارة الأمريكية من أجل توريث حكم مصر إلى ابنه جمال. هكذا، راح دم الشهداء المصريين هباء باستثناء واقعة فريدة حدثت للمجندين الثلاثة الذين استشهدوا عام 2004، فقد قامت أسرهم برفع قضية تعويض وحكم لهم القضاء المصري العظيم بتعويض بمبلغ 10 ملايين دولار لكل شهيد. كان منطق المحكمة أن هذا المبلغ ذاته أقرته المحاكم الدولية كتعويض لكل ضحية من ضحايا حادثة لوكيربى الذين سقطت بهم الطائرة فوق أسكتلندا، وقد أكدت المحكمة أن التعويض عن القتل يجب أن يكون واحدا لأن قيمة النفس الإنسانية واحدة، سواء كان الضحايا عربا أو غربيين.. هذا الحكم التاريخي (الذي لم ينفذ حتى الآن) صدر من الدائرة 4 تعويضات من محكمة استئناف القاهرة، وكانت الدائرة برئاسة المستشار أحمد البرديسى وعضوية المستشارين حمدي غانم وأحمد سليمان وحضور أمين السر سعيد زهير. الغضب العارم من العدوان الإسرائيلي نبيل مشروع، المصريون يحسون بأن المعاملة الإسرائيلية المهينة التي تحمّلوها أيام مبارك آن لها أن تتوقف. يجب على إسرائيل أن تدرك أن مصر تغيرت، وكما أن حليفها مبارك في قفص الاتهام أمام محكمة الجنايات فإن الشعب المصري لن يقبل بعد الثورة أن يُقتل أبناؤه ويفلت القتلة من العقاب. السؤال: لماذا اخترقت إسرائيل الحدود المصرية واعتدت على جنودنا الآن بالذات؟! الإجابة تجرنا إلى موقف إسرائيل من الثورة المصرية. فى يوم 4 فبراير الماضي، كتب المفكر الأمريكي الكبير ناعوم تشومسكي مقالا مهما في جريدة «الجارديان» البريطانية فنّد فيه المقولة الشائعة بأن «أمريكا وحلفاءها لن يسمحوا بالديمقراطية في مصر خوفا من الإسلاميين». قال «تشومسكي» إن الولاياتالمتحدة لا تعتبر الإسلاميين خطرا حقيقيا، والدليل على ذلك أنها تحالفت مرارا مع أكثر الإسلاميين تشددا من أجل تحقيق مصالحها، فقد تحالفت الولاياتالمتحدة على مدى عقود مع السعودية، موطن الأفكار الوهابية المتطرفة، كما تحالفت أمريكا مع الجنرال ضياء الحق، وهو من أكثر الحكام المستبدين إجراما، كما أنه طبق في باكستان نظاما صارما لتطبيق الشريعة باستعمال أموال السعودية. الخطر على الولاياتالمتحدة في رأي «تشومسكي» لا يأتي من الإسلاميين، لكن الخطر الحقيقي يكمن في أن تتحول مصر إلى دولة مستقلة فعلا. ويخلص «تشومسكي» إلى أن الولاياتالمتحدة ستقبل الإطاحة بمبارك بضغط من الثورة، لكنها ستبذل كل جهدها لكي يتولى الحكمَ بعد مبارك رئيسٌ مصري لا يخرج أبدا عن المسار المرسوم له (تأمّل المحاولات المستميتة للدفع بعمر سليمان وأحمد شفيق إلى رئاسة الجمهورية).. انتهى كلام «تشومسكي» لنفهم منه أن إسرائيل، ومن خلفها الولاياتالمتحدة، في حالة فزع من التغيرات التي تحدث في مصر. إسرائيل تدرك جيدا أن مصر تملك إمكانات كبرى لا تملكها دولة أخرى في المنطقة، وأن مصر الديمقراطية ستكون دولة حديثة قوية عملاقة تقود العالم العربي وتحدد ما يحدث في المنطقة بأسرها. من المنطقي أن تفعل إسرائيل كل شيء من أجل تعطيل التحول الديمقراطي في مصر. خلال الأشهر الستة الماضية التي أعقبت تنحي مبارك، لم تكن إسرائيل بحاجة إلى التدخل لأن الوضع في مصر كان مرتبكا والرؤية مشوشة تماما: تعديل دستوري تم إلغاؤه ببيان دستوري، وانفلات أمني، وأزمة اقتصادية من تراجع السياحة والاستثمارات، والأخطر من ذلك خلاف خطير بين القوى الثورية تحول إلى ما يشبه الصراع بين جماعات الإسلام السياسي والمناصرين للدولة المدنية. استغرق الجميع في جدل طويل حول ما إذا كان يجب كتابة الدستور أولا أم إجراء الانتخابات أولا.. أضف إلى ذلك أن الإجراءات التي اتخذها المجلس العسكري عجزت عن حماية الثورة ومنحت فلول النظام القديم فرصة ذهبية لمحاربة الثورة، ثم بدأت مواجهات مؤسفة بين شباب الثورة والمجلس العسكري، تطورت إلى اتهامات متبادلة ومطاردات ومحاكمات عسكرية. كانت إسرائيل، بلا شك، تراقب الوضع في مصر وهي مطمئنة إلى أن الثورة المصرية تجهض نفسها بنفسها. فجأة، بمبادرة من المجلس العسكري، استعاد «الأزهر» دوره التاريخي ووضع وثيقة عظيمة للتوافق الوطني حدد فيها ملامح الدولة المصرية المقبلة، وإذا بكل القوى الوطنية توافق على وثيقة الأزهر، حتى السلفيون الأكثر تشددا وافقوا على الوثيقة وأبدوا عليها ملاحظات بسيطة غير جوهرية. هكذا انتهى الجدل حول الدستور وتوحدت القوى الثورية من جديد وقطعت مصر خطوة واسعة نحو التحول الديمقراطي. لم يتبق لنا إلا أن نقنع المجلس العسكري بإجراء انتخابات نزيهة تأتى إلى الحكم بحكومة منتخبة.. هنا، في تقديري، كان لا بد لإسرائيل من أن تتدخل بقوة لإفساد مسار الثورة.. بدأ الأمر بظهور مفاجئ لجماعات مشبوهة مزودة بأسلحة وفيرة، راحت تعتدي على أقسام الشرطة وتزعزع سيطرة الدولة في سيناء، المقصود هنا التدليل على الانفلات الأمني في سيناء، مما يبرر العدوان الإسرائيلي الذي لم يتأخر، فدخلت القوات الإسرائيلية إلى الأراضي المصرية وقتلت وجرحت عددا من الضباط والجنود المصريين. الأهداف من العدوان الإسرائيلي متعددة: اختبار السلطة الجديدة في مصر وإرباكها وإظهارها بمظهر العاجز عن حماية الوطن وتعطيل التحول الديمقراطي، وقد يكون الهدف استدراج مصر إلى مواجهة عسكرية غير محسوبة تقضي على الثورة قضاء نهائيا (كما تم استدراج عبد الناصر في عام 1967).. ما العمل..؟! كيف نرد العدوان بطريقة تفهم منها إسرائيل أن عهد حسني مبارك الذي فرّط في حقوق المصريين وكرامتهم قد انتهى إلى الأبد؟ هناك خطوات عاجلة وفعالة يجب اتخاذها وتتلخص في الآتي: أولا: طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة واستدعاء السفير المصري من إسرائيل والبدء فورا في إجراءات قانونية تمكّن مصر من ملاحقات قضائية دولية تجبر إسرائيل على دفع تعويضات كبيرة لكل الشهداء الذين قتلتهم، ظلما وغدرا، على مدى أعوام. إن الحكم التاريخي الذي أصدره المستشار أحمد البرديسي وزملاؤه يصلح كأساس لقضايا تعويض على المستوى الدولي سوف تتكبد فيها إسرائيل ملايين الدولارات جزاء عادلا لجرائمها البشعة. ثانيا: مراجعة أو إلغاء كل الاتفاقيات التي تربطنا بإسرائيل، بدءا من اتفاقية الكويز إلى اتفاقيات بيع الغاز وتصدير الإسمنت. ونؤكد هنا أن الخسائر الاقتصادية لإسرائيل أكثر إيلاما لها بكثير من الإدانة المعنوية التي تعودت عليها حتى أصبحت لا تكترث لها كثيرا. ثالثا: الرد على شكوى إسرائيل من الانفلات الأمني في سيناء يجب أن يكون بالمطالبة بتعديل معاهدة السلام بشكل يسمح بنشر القوات المصرية على سيناء بأكملها. المعاهدة تسمح بتعديل بنودها بشرط موافقة الطرفين وإذا رفضت إسرائيل التعديل المطلوب، فمن حقنا -طبقا للمعاهدة- أن نلجأ إلى التحكيم الدولي، ولدينا خبراء قانون دولي يستطيعون انتزاع حقوقنا في المحاكم الدولية كما حدث في موضوع طابا. رابعا: واجبنا الآن أن ندعم القوات المسلحة في مواجهتها ضد إسرائيل، لكن واجبنا أيضا أن نلح على المجلس العسكري حتى يسرع بإجراءات تمهد الأرض أمام أول انتخابات ديمقراطية في مصر منذ ستين عاما.. مطالبنا معروفة ومحددة: الإسراع بمشروع استقلال القضاء واستبعاد القضاة الذين أشرفوا على تزوير الانتخابات في عهد مبارك، تطهير الشرطة من الضباط المزورين والفاسدين، تغيير النائب العام الذي اضطر إلى مواءمات سياسية كثيرة في عهد مبارك وتعيين نائب عام جديد يعبر عن الثورة مثل المستشار زكريا عبد العزيز أو المستشار أشرف البارودي أو المستشار هشام البسطويسى أو غيرهم من رموز استقلال القضاء، إيقاف المحاكمات العسكرية فورا والإفراج عن آلاف المعتقلين في السجن الحربي وإعادة محاكمتهم أمام القضاء المدني، منع استعمال دور العبادة الإسلامية والمسيحية في الدعاية الانتخابية، إعطاء المصريين في الخارج حقهم في التصويت في الانتخابات، وأخيرا قبول الرقابة الدولية على الانتخابات كدليل على نزاهتها أمام العالم كله. خامسا: بعد أن يتم تحقيق الإجراءات التي تضمن نزاهة الانتخابات يجب التعجيل بإجرائها في أقرب فرصة. هنا أتوقع أن يرتفع السياسيون في مصر إلى مستوى المسؤولية وأن يضعوا مصلحة الوطن قبل مصالحهم الضيقة. إن إجراء الانتخابات بشكل محترم وعادل أهم بكثير من نتائجها. إذا كنا ديمقراطيين حقا فيجب أن نحترم اختيار الشعب حتى لو اختلفنا معه. إن المظاهرات الحاشدة والهتافات المدوية والاعتصامات وانتزاع العلم الإسرائيلي من شرفة السفارة الإسرائيلية وإحراقه.. كل هذه ممارسات تلقائية صادقة تعبر عن غضب شعبي نبيل، لكنها -في رأيي- أقل بكثير من الرد المناسب على العدوان الإسرائيلي.. الرد الصحيح على العدوان الإسرائيلي سوف يتحقق بتفويت هدفه، ولن يحدث ذلك إلا بنقل السلطة إلى حكومة منتخبة حتى تتفرغ القوات المسلحة لمهمتها القتالية وتبدأ مصر المستقبل الذي تستحقه. الديمقراطية هي الحل.