إذا كانت الخبرة وسيلة من وسائل التحقيق في الدعوى التي قد تلجأ إليها المحكمة، فإن كل ما له علاقة بالقانون يبقى من اختصاص القاضي. وفي هذا السياق، يطرح سؤال يتعلق بإمكانية انتداب الخبير ليتأكد من قانونية الفواتير المدلى بها. إن النظر في مدى مطابقة الفواتير للبيانات المحددة في القانون يعد مسألة قانونية صرفة، وهي مسألة تخرج عن اختصاص الخبير كتقني، وهذا ما يستشف من الفقرة الثالثة من المادة 59 من قانون المسطرة المدنية. وعلى المستوى القضائي، فإن معظم الأحكام الصادرة عن المحاكم الإدارية لا تتوانى في تكليف الخبير بمسألة التأكد من توفر الفواتير على الشروط القانونية. وفي هذا السياق، جاء في حكم صادر عن إدارية مكناس رقم 295/203/5 ش بتاريخ 19/06/2003 ملف رقم 79/2002/5 ش ما يلي: «وحيث إن المحكمة أمرت بإجراء خبرة عهد بها إلى الخبير الذي خلص في تقريره إلى أنه بعد الاطلاع على الفواتير تبين أنه ليس هناك مبرر مشروع لاستبعادها لأنها صادرة وفق المواصفات القانونية». ويعتقد في هذا الباب أن تكليف الخبراء بمثل هذه المأموريات ينطوي على خرق لمقتضيات قانون المسطرة المدنية، وذلك ما دام التأكد من مطابقة الوثائق للقانون هو من اختصاص القاضي وليس الخبير. وفي هذا السياق وبالنظر إلى الطبيعة الفنية التي يختص فيها الخبير التقني، فإن الأحكام التمهيدية يجب أن تجد مجالها الطبيعي في المسائل الفنية فقط، والتي تستعصي على القاضي الإداري معرفتها، بحيث يمكن أن نسوق هنا مثال حكم إدارية الدارالبيضاء رقم 275 في الملف رقم 745/96 غ الصادر بتاريخ 14/06/2000 والذي جاء فيه: «وحيث أسندت الخبرة التقنية إلى الخبير الذي حدد نسبة النفايات التي تخلفها المادة المصنعة خلال عملية التصنيع فيما قدره 13,6 في المائة، وكان ذلك على أساس قدم الآلة والمعدات، كما أن جل العمليات تتم بطريقة تقليدية...». وبالتالي فإذا كان للجوء إلى الخبير في المسائل الفنية ما يبرره، عمليا وقانونيا، فإن الممارسة القضائية في مجال المنازعات الضريبية أبانت عن لجوء العديد من المحاكم وبشكل مفرط إلى الخبرة، ليس فقط كوسيلة من وسائل التحقيق في الدعوى وإنما كوسيلة لأخذ رأي الخبراء في مسائل قانونية، إذ ينحصر دور المحكمة في المصادقة على تقرير الخبراء، حيث يتم الاحتكام في جل الطعون القضائية المقدمة عقب صدور مقرر اللجنة الوطنية إلى الخبير، سواء في المجال المحاسبي أو العقاري، ومعظم هذه الأحكام لا تتوانى في إسناد مهمة التقرير في قانونية المحاسبة إلى الخبير، بل إن من هذه الأحكام التمهيدية ما لا يكلف نفسه حتى عناء الاطلاع على الوثائق التي يستند إليها الطاعن، ونذكر هنا حكم إدارية الرباط رقم 121 الصادر بتاريخ 15/01/2008 في الملف رقم 1424/07 ش ض والذي بمقتضاه أسندت المحكمة إلى الخبير مهمة التأكد من توفر الشركة المدعية على ما يلي: - الوثائق المثبتة للتكاليف المسترجعة والمرتبطة بعمليات التعشير... - الوثائق المثبتة لمصاريف نقل السلع... - الوثائق المثبتة لمصاريف تنقلات وسفريات مستخدمي الشركة. والملاحظ أن مثل هذه المأمورية المسندة إلى الخبير هي في جوهرها لا تتعلق بمسائل فنية باعتبار أن التثبت من قانونية الأوراق المثبتة للنفقات تخضع لمراقبة القاضي الإداري الذي يكون ملزما بالتأكد من مدى توفر الفاتورة أو الوثيقة التي تقوم مقامها على البيانات المنصوص عليها بمقتضى البند 3 من المادة 145 من المدونة العامة للضرائب. وعلاوة على ما سبق، لوحظ وجود بعض الأوامر التمهيدية بإجراء خبرة في بعض الحقائق والمعطيات التي يمكن للمحكمة أن تراقبها، سواء خلال سريان مجريات القضية أو من خلال جلسة البحث التي قد تأمر بها، كالاطلاع على سجلها التجاري أو لتحديد نوعية النشاط المزاول من طرف الشركة أو لمعرفة تاريخ انتقال الشركة من مدينة إلى أخرى. ج- سلطة القاضي في الأخذ بنتائج الخبرة: الأصل في القانون أن القاضي غير ملزم بالأخذ بتقرير الخبرة تطبيقا للمادة 66 من قانون المسطرة المدنية التي نصت في فقرتها الأخيرة على أنه «لا يلزم القاضي بالأخذ برأي الخبير المعين ويبقى له الحق في تعيين أي خبير آخر من أجل استيضاح الجوانب التقنية في النزاع». وهذا ما نصت عليه أيضا المادة 156 من قانون الإثبات المصري والتي جاء فيها أن «رأي الخبير لا يقيد المحكمة». وهذا ما قضت به المحكمة الإدارية العليا بمصر في عدة أحكام، نذكر من بينها الطعن رقم 2123 لسنة 51 ف، جلسة 25/11/1983 والذي أكدت فيه أن «تقرير الخبير من أدلة الدعوى التي تخضع لتقدير محكمة الموضوع»، وفي قرار آخر يحمل رقم 424 لسنة 53 ق جلسة 15/05/1986 اعتبرت المحكمة الإدارية العليا أن «تقرير أعمال أهل الخبرة من سلطة محكمة الموضوع التي لها أن تأخذ بتقرير الخبير كله، كما لها أن تأخذ ببعض ما جاء به وتطرح بعضه، إذ هي لا تقضي إلا على أساس ما تطمئن إليه». لكن ما يعاب على الأحكام التي تقضي بالمصادقة على تقرير الخبرة هو غياب المناقشة الموضوعية للتقرير والإفصاح عن المبررات التي دفعت بهيئة الحكم إلى المصادقة على التقرير المذكور، حيث تكاد لا تتشابه حيثيات جميع الأحكام ولا تختلف عن إحدى العبارات التالية: «حيث إن تقرير الخبرة جاء مطابقا لمقتضيات الفصل 63 من قانون المسطرة المدنية، تتعين المصادقة على مضمونه»، أو «بما أن الخبرة مستوفية لسائر الشروط الشكلية والموضوعية والمؤسسة على معطيات موضوعية لا يسع المحكمة إلا المصادقة عليها»، إلى غير ذلك من العبارات التي توحي بأن دور المحكمة لم يتعد مجرد المصادقة على تقرير الخبير. وعلاوة على إحجام المحكمة عن تبرير ومناقشة أسباب تبنيها لتقرير خبير معين، فإنها حين تعدل عن تقرير خبير ما وتستبدله بخبير آخر، فإنها غالبا ما لا تفصح عن الأسباب الوجيهة التي دفعت بالمحكمة إلى ذلك، بل إنها في حيثيات الحكم غالبا ما يكون السبب عاما دون تحديد دقيق من شأنه أن يجعل أطراف النزاع تطمئن إلى الحكم، وذلك على الرغم من الاختلاف الكبير في الأسس التي خلص إليه كل من التقريرين. ويمكن الإشارة هنا كنموذج إلى الحكم الصادر عن إدارية الرباط والذي جاء في حيثياته: «وحيث يستفاد من الخبرتين المنجزتين أن التصحيحات التي أدخلتها إدارة الضرائب لم تكن مبنية على أسس محاسبية، وبالنظر إلى أن تقرير الخبير م.ح قد جاء أكثر تفصيلا وتوضيحا على مستوى الأسس الجديدة التي انتهى إليها، فيكون الأجدر الاعتماد عليه من حيث النتائج، ويتعين إلغاء قرار اللجنة الوطنية في ما تجاوز تلك الأسس». وبخصوص تعامل القاضي مع نتائج الخبرة، خصوصا في مجال تحديد القيمة التجارية أو الكرائية للعقارات، فإنه من خلال تحليل بعض التوجهات القضائية على مستوى المجلس الأعلى تم تسجيل الملاحظات التالية: أولا، على مستوى ضرورة الإدلاء بمراكز المقارنة عند تصحيح الإقرار بالبيع: - توجه قضائي يحتم على الإدارة الإدلاء بمراكز المقارنة للخبير القضائي في المنازعات المتعلقة بتصحيح ثمن بيع العقارات والمصرح به من لدن الملزم، علما هنا بأن المادة 224 من المدونة العامة للضرائب تتناول القيمة التجارية للأملاك المبيعة، ولم تتطرق بتاتا لمراكز المقارنة، وذلك وعيا من المشرع باستحالة وجود مراكز مقارنة في بعض الحالات. - توجه قضائي يعتبر أن الخبرة القضائية لا يعيبها عدم اعتمادها على عقود بيع مبرمة في نفس الفترة، ومؤدى هذا التوجه أن مراكز المقارنة في حال وجودها غير ملزمة للقاضي، حيث يجوز للخبير تقدير القيمة التجارية دونما الاعتماد على بيوعات مماثلة. ثانيا، على مستوى إثبات الاستثمارات: - توجه قضائي يعتبر أنه من الضروري الإدلاء بالفواتير المثبتة للاستثمارات التي يكون الملزم قد أنفقها على العقار المبيع، وذلك لتحديد القيمة التجارية للعقار. - توجه قضائي لا يتطلب إطلاع الخبير على الفواتير المثبتة للاستثمارات المنجزة على العقار، حيث يتم قبول الخبرات وإن لم يدل بشأنها الخاضع بالفواتير أو الوثائق الإثباتية التي تقوم مقامها، حيث يحل الخبير محل الوثائق الإثباتية لتقدير تكلفة الاستثمارات. ثالثا، على مستوى اللجوء إلى الخبرة: - توجه قضائي يجيز للإدارة إعمال سلطتها التقديرية في الرفع من القيمة الكرائية، دونما الأمر بانتداب خبير، متى كان تقدير الإدارة متناسبا، حيث اعتبر القرار أن نسبة الزيادة في القيمة الكرائية كانت مناسبة، مما تكون معه الضرائب المفروضة على الملزم مشروعة. - توجه قضائي يعتبر أن مسألة انتداب الخبير مسألة جوهرية، وحيث جاء في حيثيات قرار المجلس الأعلى «لكن حيث إن المنازعة تتعلق بتحديد القيمة التجارية للعقار، وهي مسألة تقنية تقتضي إجراء خبرة على العقار المفوت وتحديد ثمن تفويته، بحيث لا يمكن أن تستند المحكمة في لذلك إلى رأيها». ويعتقد أن مثل هذا التوجه يضيق من الاختصاص الإيجابي للقاضي، ما دام التوجه لا يسمح للقاضي الإداري حتى بإجراء معاينة أو تفعيل سلطة المحكمة لتقدير القيمة التجارية للعقار التي لا ترتبط دوما بوجود عنصر من عناصر المقارنة. يتبع... جواد لعسري - أستاذ جامعي