يتمثل أحد أهم رهانات الإصلاح الدستوري الجديد في عدم إمكانية بقاء المبادرة السياسية حكرا على فاعل وحيد مهووس بالوصفات التقليدية، ويرتكز مشروعه على الحفاظ على تحكمه في تطور المجتمع عبر التحكم في مختلف الآليات المؤسساتية. بتعبير آخر، لا يبدو أن المشهد السياسي والمؤسساتي مؤهل لإرساء دعائم لعبة ديمقراطية جديدة. إنه، في الأصل، انحباس مزدوج.. يعد الأول عرقلة لتشكيل سلطة مضادة حقيقية، فيما يحول الثاني دون إحقاق توازن بين التقليد والعصرنة. وقد تعززت هذه الوضعية بغموض نظام يقيم مسوغات وجوده على مرجعيتين: إحداهما تقليدية ترتكز على البيعة التي تمنح الملك شرعيته الدينية والتاريخية، والثانية حديثة تنبني على تحرير نص مكتوب يحدد أجهزة الدولة ويُفصل في اختصاصاتها وعلاقاتها. وقد فتحت هذه الازدواجية في الماضي الباب على مصراعيه لتأويل سلطات الملك الذي قاد، انطلاقا من أطروحة السلطات الضمنية، إلى تمدد في الاختصاصات إلى أبعد مما تنص عليه حروف النص الدستوري، لتلحق ضررا بسلطات الحكومة، بل وبصلاحيات البرلمان في بعض الأحيان. لنتذكر كيف وظف الراحل الحسن الثاني هذا المعطى في سنة 1981 حين انسحب نواب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من البرلمان ليقدر أن ولايتهم انتهت. واليوم، لا ينبغي أن يبقى هذا النوع من التأويل ممكنا في ظل التغيير الملحوظ الذي أدخله الدستور الجديد على التركيبة المؤسساتية للاختصاصات الملكية، ولاسيما بعد فصل الجوانب الدينية لهذه الاختصاصات عن السلطات المدنية المخولة للملك مثلما هي ممنوحة لبقية السلطات الدستورية. الفصل 19 في الدساتير السابقة، والذي كان سببا في هذا الغموض، لم يختف فقط من الترقيم الجديد لفصول الدستور، وإنما أيضا من محتواه بعد أن تم تقسيمه إلى فصلين، هما، على التوالي، الفصل 41 الخاص بالسلطات الدينية والفصل 42 المتعلق بصلاحيات رئيس الدولة. ومع ذلك، لا يزال الغموض قائما، ذلك أن التمييز الشكلي أو الرسمي بين الفصلين 41 و42 لا يمكنه أن يخفي واقعا يجسد هذه الازدواجية بين الزعامة الدينية ورئاسة الدولة.. ولهذا السبب، يصعب أن يتجاوز المغرب الوضعية التي تتنافس فيها شرعيتان: الشرعية التقليدية الضاربة جذورها في المؤسسات السابقة، والتي لا يمكن أن تسمح بتقاسم السلط أو بفسح المجال لتشكل سلطة مضادة حقيقية. ومن جهة ثانية، شرعية حديثة تميل إلى جعل المجتمع مصدر كل شرعية والفاعل السياسي الحي القادر على تقرير مصيره. إجمالا، لم يتم القطع مع أي شيء. وعلى الفاعلين السياسيين أن يبلوروا تأويلا متقدما وعصريا للوثيقة الدستورية الجديدة. ويعطي الفاعلون في اللعبة السياسية، اليوم، انطباعا بأنهم يفهمون جيدا نص وروح الدستور الجديد، لكن هل هم مؤهلون لتحمل كل ما يفرضه التغيير عليهم؟ فقهاء القانون يعلمون جيدا بأنه لا تكفي وثيقة، وإن كانت دستورية، لإيجاد حلول للمشكل ويشددون على ضرورة تطبيق مقتضيات الوثيقة. لنقل الأشياء على نحو أكثر وضوحا، يحتاج الدستور الجديد (أيا كانت حدوده) إلى نخبة جديدة تمنحه الحياة وتتولى تطبيقه على أرض الواقع. النخب الحالية ليست مؤهلة للقيام بهذا الدور، لأن هذه النخب تجسد ثقافة سياسية يسعى الجميع إلى القطع معها، بل إنها ساهمت بقوة في نزع رداء المصداقية عن السياسة في هذا البلد وتبخيس شأن الحياة العامة. وسيكون السماح لهذه النخب بالعودة إلى المشهد السياسي وتكرار نفس السيناريو خطأ فادحا. يبدو أيضا أن هذه النخب لم تتعلم شيئا ولم تنس شيئا كذلك. لم تتعلم شيئا من الأحداث، لأنه كان لزاما عليها بعد الانتخابات التشريعية في 2007 أن تستخلص الدروس وتخلي الساحة (الناخبون ألمحوا بشكل صريح إلى أنها لم تعد تصلح لأي شيء عدا إثقال كاهل ميزانية الدولة)، لكنها لم تنس أي شيء من عاداتها وسلوكاتها لأنها مستعدة لاستئناف المسيرة من النقطة التي تركوها فيها من قبل. يا لها من بذاءة! القول إن المغرب شهد حركة 20 فبراير ومظاهرات في العديد من المدن وخطاب 9 مارس والإصلاح الدستوري من أجل العودة إلى نقطة الانطلاقة ومشاهدة الوجوه نفسها التي كانت تؤثث الديكور وتشخص المسرحية ذاتها. يا له من كابوس مزعج! ينبغي التحلي بجرعة زائدة من الجبن وانعدام الوعي لقبول سلوك من هذا القبيل.