مسار قطعته على امتداد أربعة عقود مجموعة ظهرت في قلب سوس وفي أحد الأحياء الهامشية في حي الجرف في إنزكان على الضفة اليمنى من وادي سوس عند مصبه في المحيط الأطلسي. من أجواء الألم والفقر والحزن والخوف، طلعت أشعة مجموعة غنائية استقرت تسميتها، أخيرا، على «إزنزارن»، التي تعني مجموع الأشعة. في هذه الحلقات، التي تنفرد «المساء» بنشرها، سنحكي حكاية هذه المجموعة الفنية التي تفردت بنمطها الغنائي واستطاعت أن تجمع حولها محبين بالملايين. من الأمور التي أكدها أعضاء المجموعة أنه لم يكن لهم أي انتماء، سياسي أو حزبي، كما ثبت، غير ما مرة، أنهم رفضوا دعوات وُجِّهت لهم من أجل إحياء حفلات تُشْرف على تنظيمها بعض التيارات السياسية، فقد كانت للمجموعة حساسية مفرطة تجاه الانتماءات السياسة، ومبرر ذلك ليس لموقف سابق بل لأن أفراد المجموعة كانوا، دائما، ميالين إلى نوع الاستقلالية والتفكير الحر الذي تقتضيه أي ممارسة فنية، وفي الوقت ذاته، كان لهم أنصار ومحبون من جميع التيارات السياسية والمشارب الفكرية، لأنهم كانوا، بشكل أو بآخر، في صلب الحراك الاجتماعي والسياسي، لأن كل أغانيهم كان محصلتها سياسية بامتياز، فقد مارسوا السياسة من خلال أغانيهم وساهموا في ترسيخ ثقافة رفض الواقع المرير. كما ساهموا في الكشف عن واقع التهميش الذي يعانيه الإنسان المغربي بشكل عام والإنسان السوسي بشكل خاص. وقبل الخوض في تفاصيل بعض المواضيع ذات الصبغة السياسة في أغاني مجموعة «إزنزارن»، لا بد من الإشارة إلى الأجواء التي رأت فيها المجموعة النور، كما أن الفترة التي ينتمي إليها جيل أفراد المجموعة كانت فترة تاريخية سياسية بامتياز، فالمغرب ما كان ما يزال حديثَ عهدٍ بالاستقلال وما يزال في مرحلة بناء مؤسساته. وقد تزامنت البداية الأولى للمجموعة مع أحداث سياسية كبرى، فقد كانت الأجواء مشحونة بالسياسة إلى أبعد الحدود، كما أن المجموعة لا تخفي تأثرها بقصائد الرايس جنطي، التي تتغنى بالكفاح ضد المستعمر والمقاومة، إضافة إلى أغاني الرايس ألبنسير، الذي تناولت القصائد التي غناها الواقع السياسي والاجتماعي بالنقد، بل إن بعض الروايات تقول إن الرايس ألبنسير هو أول مت آثار موضوع تهميش الأمازيغية، عندما قال، في مطلع إحدى قصائده: «أربي زايدْ العز إتشلحيتْ.. نتّاتْ أس ليغ أتيك إناغ ساولغ».. والتي تشير معانيها إلى دعاء الله إلى أن يزيد من عز «تاشلحيت»، التي بواسطتها أصبح للشاعر شأن كلما تكلم بها... كما أن انتقاداته همّتْ بعض الشخصيات السياسة من مستوى رفيع. إلى جانب ذلك، كان ما يزال لأغاني الحاج بلعيد عظيم التأثير على الأجيال المتعاقبة بسبب قوة الكلمة والتزامها، رغم أن القالب الغنائي كان تقليديا، وهي عوامل ساهمت في خلق منحى الالتزام الذي سيظهر في ما بعد في الأغاني التي سجلتها المجموعة. ويذكر أعضاء «إزنزارن» أن تألقهم الأول جلب لهم إعجاب مجموعة من المثقفين، الذين التفّوا حول المجموعة وكان إعجابهم سببا في الارتباط بالمجموعة. وكانت اللقاءات التي تجمع هؤلاء بأفراد المجموعة مناسبات لإطْلاعهم على مختلف القضايا التي تشغل الرأي العام والمستجدات السياسة، حيث بدأ الوعي السياسي يتشكل، شيئا فشيئا، لدى المجموعة، لكنه لم يصل إلى مستوى الالتزام التنظيمي مع أي جهة سياسية. عندما أصدرت «إزنزارن» الشريط الذي يضم أغاني «تاسوت أد» و«الدونيت تكا يزماز» و«إمحضان»، وكلها أغانٍ تعالج مواضيع الفقر والتهميش والدفاع عن الأرض والتمسك بها، وهي الأغاني شكلت بداية ظهور الأبعاد السياسة في أغاني المجموعة. لكن صدور الشريط الموالي، والذي كان يحمل عنوان «كار أزمز»، والذي تضمَّن قصيدة «تيخيرا»، التي تقول بعض كلماتها: «ءاح ءيغ ت نا ربي كايسن مان ءيفا ل دان ءيفال تاسا غ ءوكنس كولو تنفاتاس ءا ح نكا زوند ءيكْر دان ءيوالان ءاسيف كودا ءينكْي ياوي كْيس مناوت تسا راتين ءاح نكْا زوند ءاولو داس ءيكرز ءوفلاح دا سرس ءيتاسي صابات ءينكر ءاس لخير شان ءيدبو تغراد لحما شين ءاصميض ماش ءيقاند ءايتازال يان ءيران لخير نكْا زوند ءاكوز ءان يالين ءاسوليل»... وتحكي هذه القصيدة المطولة عن الفوارق الطبقية بين أولئك الذين يشبعون وأولئك الذين يتضورن جوعا، دون أن يجدوا ما يسُدّون به رمقهم، وشبّهت القصيدة المواطن المسحوق بالمحراث في يد الفلاح، يشق به أديم الأرض دون أن يملك هذا الأخير القدرة على أن يصرخ أو أن يتمرد على سائقه، بل كلما صرخ، اشتد عليه النير أكثر فأكثر. وقد قدّم الأستاذ محمد بزيكا تعريبا لهذا القصيدة يقرّب بشكل جيد بعض معاني القصيدة، ونقتبس من محاولته هذه بعض الأبيات التي تشير إلى بعض معاني هذه القصيدة، التي كتب كلماتِها محمد حنفي ولحنها كل من مولاي إبراهيم وعيد الهادي إيكوت: «كلما صحنا، اشتدّت وطأة النير فتعامينا وتصاممنا وقلنا إن الموت أرأف من هذا القدَر.. العدل يصلبه رنين القرش لهفي على المأجور يكابد في الحر والقر أنعي لكم هذا الزمان لا تنتهي فجيعة إلا بفجيعة.. ماتت الأحلام في القلوب لم يبق إلا اليأس والنكد»... كما شكّلت قصيدة «توزالت» أو «السكين «أول إطلالة للمجموعة على القضايا الدولية من خلال الدعوة إلى السلام والإطمئنان وشجب كل أشكال التقتيل والحروب التي تطال البشرية. وقد نُظِمت القصيدة قبل مجزرة صبرا وشاتيلا، فكانت شبه نبوءة للمأساة الإنسانية التي ارتكبتها الآلة الصهيونية في حق الفلسطينيين.