ما تزال الذاكرة الجماعية بكل من سوس والأطلس تحتفظ باسم «موغا»، الشخص الذي انتدبته الدولة الفرنسية في ستينيات القرن الماضي من أجل اختيار زمرة من الشباب للعمل بمناجم الفحم الحجري بشمال فرنسا، الاختيار وقع على المناطق النائية من سوس والأطلس، بحكم أن «فليكس موغا» خبر أهلها عندما كان ضابطا في الجيش الفرنسي بالمغرب. قليلون اليوم يعرفون تفاصيل تلك الرحلة التي قطعها آلاف من المغاربة الذين أراد منهم «موغا» أن يكونوا مجرد عضلات بكماء لا تسمع ولا ترى ولا تطالب بمجرد قطعة فحم للتدفئة؟ في هذه السلسلة سنحكي، على لسان هؤلاء المغاربة وبعض الباحثين الذين نبشوا في تاريخ هذه الحقبة من تاريخ المغرب الحديث، رحلة أصحاب «السحنات السوداء» الذين ذهبوا منحنين وعادوا مرفوعي الرأس بعد أن ربحوا دعوى التعويض عن سنوات القهر ضد الدولة الفرنسية. بدأ المنجميون المغاربة يكسرون حاجز الخوف وبدؤوا يغتنمون كل فرصة لطرح مشاكلهم والتعريف بالتماطلات والإهمال الذي تواجه به طلباتهم، خاصة تلك المتعلقة بالسكن. تحكي إحدى الشهادات التي قدمها أحد المنجميين، الذي سيتحول فيما بعد إلى أحد رواد جمعية المنجميين المغاربة، أنه اغتنم ذات مرة اجتماعا عاما للشركة المشرفة على المنجم فطرح سؤالا على المدير العام حول إن كان من حقه الحصول على سكن؟ فأجابه المدير العام بأنه يملك حق الحصول على سكن مثل غيره من المنجميين، لكن المنجمي المذكور فاجأه المدير عندما عرض عليه أزيد من عشر طلبات سبق أن تقدم بها من أجل الحصول على سكن لكنه لم يحظ به، الأمر الذي خلق نوعا من الإحراج للمدير فتقدم إليه أحد المسؤولين بالإدارة عن تسيير ملف السكنيات في آخر اللقاء وطلب منه أن يزوره في مكتبه وهناك عرض عليه ثلاثة منازل ماتزال فارغة وقام المنجمي المغربي باختيار واحد من تلك المنازل، وفي ظرف أقل من ثمانية أيام من احتجاجه في الاجتماع العام كان المنجمي قد استقر بمنزله الجديد، في الوقت الذي ظل يقدم الطلبات وترفض لأزيد من سنتين. مثل هذه الحوادث رفعت درجة التعبئة في صفوف المنجميين وأكدت لهم أن لهم حقوقا، يجب عليهم فقط أن ينتزعوها. ومن بين الفضاءات العامة الأخرى التي تتلمذ فيها المغاربة على المبادئ الأولى للنضال الحقوقي هي النقابة التي كانت ساعتها تقود النضالات العمالية، ويتعلق الأمر بالكونفدرالية العامة للشغل (CGT) فقد كانت ملجأ للمتضررين من مماطلات الإدارة، بحيث كانوا يرفعون مشاكلهم إلى مناديب العمال، هؤلاء كانوا يتوسطون لدى الإدارة وغالبا ما كانت على أيديهم تحل العديد من المشاكل، وكلها معطيات ساهمت في اقتناع المنجميين المغاربة بأهمية الانخراط في العمل النقابي حيث واظب العديد منهم على تأدية، واجب الانخراط كل شهر. رغم هذا الانخراط في العمل النقابي فإن العمال المغاربة كانت مشاكلهم كثيرة وأكثر تعقيدا، إذ تحتاج إلى هيئة مستقلة لتدبيرها، وفي هذه الظرفية بالذات ستظهر شخصية سيكون لها وقع كبير على المسيرة النضالية للمنجميين المغاربة، ويتعلق الأمر بعبد الله صماط الذي سيؤسس رفقة بعض المناضلين جمعية المنجميين المغاربة بشمال فرنسا، والتي ستتولى معالجة مشاكل المنجميين كما ستعمل على تبني الملف المطلبي لقدماء المنجميين الذين حرموا من العديد من الحقوق. في هذه الفترة بالذات بدأ الحديث عن قرب إغلاق المناجم الفرنسية ينتشر، وبدأ الحديث عن إحالة أعداد كبيرة من المنجميين على التقاعد، الأمر الذي آثار موجة من الخوف والقلق في صفوف المنجميين المغاربة الذين أصبحوا يخشون أن يتم هضم حقوقهم وحرمانهم من مكتسابتهم خاصة بعد كل المعاناة التي طالتهم من إدارة المناجم، فكان من الضروري أن يتكتلوا في تنظيم يحمي حقوقهم. بعد تأسيس الجمعية، التي سنعود في حلقة قادمة إلى تفاصيل قصة تأسيسها، أصبح للمنجميين المغاربة ملاذ حقوقي، ذلك أنه أصبح بإمكانهم أن يعرضوا مشاكلهم على الجمعية، التي تقوم بدورها بمراسلة الجهات المعنية، وقد ساهمت الجمعية من خلال مكتبها في تسريع وتيرة العديد من الإجراءات من أجل تحقيق بعض المطالب الملحة للمنجميين، حيث يحكي أحدهم أنه كان في حاجة إلى مستودع خاص بسيارته وبحكم أن سيارته كانت من الحجم الكبير فقد كان يبحث عن مستودع يتسع لها إلا أن طلباته كانت تجابه دائما بالرفض إلى أن لجأ إلى الجمعية، ومن خلالها تمت مراسلة إدارة المناجم التي بدورها راسلت المصلحة الخاصة بالمساكن فتم تسليمه مفاتيح مستودع يناسب حجم سيارته، الأمر الذي بدأ يرسخ لدى المنجميين جدوى وفعالية أن تكون لهم جمعية تمثلهم، كما أصبح بإمكانهم أن يتحدثوا عن مشاكلهم بكل طلاقة وأن يشرحوها بلغتهم الأم ويحددوا طلباتهم وحجم الضرر الذي لحقهم بكل دقة، كل ذلك لم يكن ليتحقق إلا بفكرة تأسيس الجمعية. لقد شكلت الجمعية فاعلا ميدانيا لتجميع جهود المنجميين وتأطيرهم والدفاع عن قضاياهم وانتزاع حقوقهم وفضاء لتعزيز الثقة بأنفسهم، ووسيلة لإخراجهم من العزلة التي فرضت عليهم لعقود من الزمن. لقد شكل تأسيس الجمعية إشارة مرور من الوضع الذي كان يغلب عليه الطابع الفردي في حل المشاكل إلى وضعية النضال الجماعي من أجل انتزاع الحقوق والحفاظ على المكتسبات، وهو ما سيجلب للمنجميين المغاربة نوعا من الاحترام والتقدير كما أن محاولات العرقلة لم تتوقف بعد غير أن مؤشرات التغيير بدأت تلوح في الأفق. ظهرت جمعية المنجميين في أجواء سياسية بفرنسا كانت تتسم بالمد العنصري ضد المهاجرين عموما، وخاصة بداية سنوات 2000 الأمر الذي زاد من الأعباء النضالية التي تنتظر المغاربة، كما أن قضية من أعقد القضايا التي عانى منها المهاجرون المغاربة عموما هي قضية اندماج الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين، إضافة إلى أن الأجواء السياسية كانت ضد المهاجرين إلى أروبا من القارة الإفريقية، خاصة في تلك الفترة. أفراد الجمعية بدؤوا في تسطير خطة العمل التي ارتكزت أساسا على المشاكل اليومية الخاصة بالمنجميين بالإضافة إلى الملفات المطلبية الكبرى المتعلقة بالمتقاعدين وقدماء المنجميين والتعويضات التي تم حرمانهم منها.