أُعلنت نتائج الاستفتاء على الدستور. تقول وزارة الداخلية إن 73,50 في المائة من الناخبين المسجلين شاركوا في الاستفتاء (أكثر من تسعة ملايين ناخب) وأن 98,50 في المائة منهم صوتوا ب«نعم»، وأن الذين قالوا «لا» لا يتجاوزون 1,5 في المائة. الذين خبروا منطق وزارة الداخلية المغربية وعقلية المخزن والظروف التي أعقبت الإعلان عن انطلاق مسلسل المراجعة الدستورية، كانوا ينتظرون طبعا أن يرد في النتائج ما يفيد بأن نسبة المشاركة كانت عالية، وأن نسبة «نعم» – ضمن المشاركين – كانت أعلى. لكن الكثيرين لم يكونوا ينتظرون أرقاما بهذا الحجم، إذ في الوقت نفسه، اعتبروا أن النظام سيكون حريصا على ألا يظهر أنه عضو في نادي «ديمقراطيات 99 في المائة»، ومع ذلك «فعلها» النظام، وهذا يمثل نتيجة منطقية لتحديين اثنين، اعتبر النظام أنه مسؤول عن رفعهما من خلال تمرين الاستفتاء: التحدي الأول هو تحويل الاستفتاء، عمليا، من عملية تصويت على نص إلى تأكيد لشرعية الملكية (والتي هي في غير حاجة إلى تأكيد بحكم أن أهم المقالات، التي كُتبت في الخارج عن المغرب بمناسبة الربيع العربي، أقرت بأن البلد، رغم الفساد والاستبداد، لا يعيش حالة منازعة في شرعية الملكية)، يكفي هنا، مثلا، أن نرجع إلى خطبة الجمعة الشهيرة الداعية إلى التصويت ب«نعم» وإلى بيان المجلس العلمي الأعلى وتظاهرات المؤيدين للدستور، لنرى أن «معركة نعم للدستور» تُقَدَّمُ كما لو كانت معركة حماية الملكية ومعركة حماية ثوابت الأمة، وكما لو أن المعترضين على الدستور هم أعداء للملكية. كل الشعارات التي رُفعت تأييدا لمشروع الدستور يحضر فيها الملك. وهذا، على كل حال، «ثابت» من ثوابت الاستفتاءات في المغرب، وقد تعرض له بالتحليل كثير من الباحثين. التحدي الثاني هو اعتبار التصويت على الدستور تصويتا ضد حركة 20 فبراير. هناك من يريد أن يقدمها على أنها اليوم لم تعد نبتة مقبولة في التربة المغربية، وأنها ليست من الشعب، بل تمثل أقلية خارجة عن الجماعة تم إفسالها في جسم المغرب فرفضها، وأن الحركة ليست جزءا طبيعيا من النسيج المغربي ومن أحلامه وتطلعاته وطموحاته الحقيقية. ولهذا لا يمكن أن نسمح لأقلية ضالة بأن تزعج الأغلبية. حركة 20 فبراير، في نظر الرسميين، لا تمثل شيئا، فلا يجب أن توحي الأرقام بأن لهذه الحركة تمثيلية ما، يجب أن تحكم الأرقام عليها بالإعدام، ومن ثمة فالأرقام المعلنة في بلدان العالم الثالث غير الديمقراطية هي قرارات سياسية وليست محصلة لعمليات فرز وإحصاء. وقد كانت لدينا في المغرب تجارب أرقام تُعلن في التلفزة قبل انتهاء الفرز، وقال عنها القضاء إنها مجرد «سبق» صحفي لا تُلام عليه إدارة التلفزة. لكن ما يغيب عن أذهان البعض أن الدساتير الحقيقية يجب أن تحمي الأقلية، لأنها قد تصير أغلبية، ولها حق العمل من أجل أن تصير أغلبية، هذا إذا افترضنا جدلا أن حركة 20 فبراير هي حركة أقلية مجتمعية، بينما الصور المبثوثة عبر الشبكة العنكبوتية تثبت لنا أن هذه الحركة قد استطاعت أن تجند في تظاهراتها إجمالا ما لم تستطع أن تجنده الأحزاب والنقابات منذ الاستقلال. لكن البعض يتصرف بمنطق ما قبل ظهور الشبكة المذكورة وما قبل انبثاق الثورة التواصلية العالمية. أمام الحاسوب، يستطيع أي منا أن يقف على حجم تظاهرات 20 فبراير بمختلف مناطق المغرب، وأن يشاهد صورا حية لمسيرات حاشدة لا يظهرها الإعلام الرسمي ولا تظهرها فضائية «الجزيرة». مثلا، هل نصدق أن عشرات الآلاف من المتظاهرين في طنجة صوتوا لصالح مشروع الدستور، وهل هؤلاء لا يمثلون أي شيء؟بصدد نتائج الاستفتاء، لدى الباحثين حتى الآن أرقام صادرة عن جهة واحدة فقط، زكتها طبقة سياسية في معظمها غير مستقلة، لذا يتعين انتظار أن تكتمل الصورة من خلال بيانات وتقارير وتحريات جهات أخرى مستقلة، ولكن هذا لا يمنع الباحثين من طرح بعض الأسئلة الأولية. فمثلا، كيف يُعقل أن يكون الناخبون قد صوتوا بهذه الكثافة، لكنهم في الأصل، مع ذلك، لم يذهبوا لسحب بطائقهم الانتخابية، مما اضطر رجال وأعوان السلطة إلى إيصالها إليهم؟ هل تستطيع وزارة الداخلية اليوم أن تنفي أنها كلفت رجالها وأعوانها في مختلف مناطق المغرب بحمل البطاقات إلى بيوت أصحابها؟ وهل تقبل الداخلية أن يُفتح تحقيق مستقل في الموضوع؟ ألم تكن لهذه المخالفة آثار على مجريات العمليات الانتخابية.. فحين حمل المقدمون البطائق في جيوبهم وتجولوا بها في الأحياء والدروب يعلم الله وحده ماذا صنعوا بها، وهل سُلمت إلى غير أهلها وتحولت إلى وسيلة للتصويت المتكرر.. يكفي أن نعلم هنا أن عضوا بالمكتب السياسي لحزب مشارك في الحكومة سجَّل أن أعضاء مكتب التصويت لا يتحققون من هويات المصوتين. إذا كان هذا يتم في العاصمة، فما الذي يكون قد جرى، يا ترى، في البوادي والمناطق النائية؟ في عشر من اليوميات الأكثر انتشارا في المغرب، سيلاحظ المطلع على عدد عطلة نهاية الأسبوع أن الصور المنشورة والخاصة بمراكز التصويت لا تتضمن ولو صورة واحدة اضطر الناس فيها إلى تنظيم أنفسهم في شكل طوابير. قد يُقال إنها صور الصباح، حيث لم تكن هناك كثافة في التصويت، ولكن حين اطلاعنا على النصوص المكتوبة المصاحبة للصور، سنرى أنها تتضمن تأكيدا على أن الكثافة في التصويت برزت منذ الساعات الأولى للصباح، وأن الكثيرين هرعوا إلى مكاتب التصويت قبل أن يحل موعد صلاة الجمعة. الصور المنشورة عن التصويت، حتى كتابة هذه السطور، ليست صورا «مخدومة»، وهي لا تبرز وجود اكتظاظ أو كثافة في التصويت تطابق الأرقام المعلنة، إلى درجة أن المصوتين لم يكونوا محتاجين إلى تنظيم طابور التصويت وانتظار دورهم. طبعا نحن نتوقع أن يتم «استدراك» هذا «الخلل». طبعا، بعد أي استفتاء، يكون أي ديمقراطي مطالبا بأن يحترم إرادة الشعب، مهما كانت تقديراته للنص المستفتى عليه، ولكن الأمر يتوقف على مدى احتفاظ العملية الاستفتائية بطابعها الجدي. وفي هذا الإطار، يجب أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل مارست أجهزة الدولة الحياد المطلوب إزاء الاستفتاء الأخير. مع كل أسف، سجلنا «كثافة» في العودة إلى أساليب الماضي في مختلف المدن، وفي العاصمة نفسها عاين الجميع لافتات تدعو إلى التصويت ب«نعم» غير موقعة ولا تحمل إشارة إلى الجهة التي أصدرتها، فعلى أي أساس رخصت الداخلية لعملية تعليقها، وهي بالتالي لافتات تُعتبر صادرة عنها؟ شاهدنا ضرب الناس والتنكيل بهم بشكل رهيب في 13 مارس و22 أبريل و29 أبريل وقتل الشاب كمال العماري والهجوم على مقر الحزب الاشتراكي الموحد، بعد الإعلان عن انطلاق مسلسل المراجعة الدستورية، فهل يُعتبر هذا الجو موفرا لضمانات حرية الاختيار المطلوبة في مثل هذه اللحظات؟ عاينا حشدا مرعبا لكل وسائل محاصرة حركة 20 فبراير ومنعها من نشر مواقفها بصدد الدستور وتعبئة الناس ضده، فتم التخطيط وطنيا لاحتلال الأماكن التي تنطلق منها المظاهرات ومنع نشطاء الحركة تحت أعين الأمن من ممارسة حقهم في التظاهر ضد الدستور، حيث استعمل «مؤيدو الدستور» آليات وشاحنات وحافلات تسير في كل الاتجاهات بدون تقيد بأدنى ضوابط السير أو التظاهر السلمي المنظم، ووصل الأمر إلى تسلق الراكبين سطوح الحافلات في قلب العاصمة بشكل يهدد حياتهم وسلامة وحياة الآخرين، وإلى ظهور مظاهرات غريبة تقوم على التظاهر ضد حق الآخرين في التظاهر، كيف سُمح لهؤلاء بكل هذه التجاوزات؟ سجلنا إرسال رسائل تهديد ضد رموز وطنية وقادة حقوقيين ورجال أعمال ونشطاء شباب من طرف الولاة والعمال تصادر حقهم في التظاهر في عز النقاش حول الدستور، بل إن تلك الرسائل قررت منع حتى مجرد «اللقاءات التواصلية» مع السكان. وتُوِّج كل ذلك بإلزام خطباء الجمعة بإلقاء خطبة موحدة تدعو إلى التصويت ب«نعم» على الدستور، جاء فيها: «فهذه -أيها المومنون- إشارة موجزة إلى بعض فصول مشروع هذا الدستور، وما تضمنته من مزايا، ضمن المحاسن العامة لمجموع بنوده ومحتواه، والتي تعطي صورة ناصعة عن أهميته في إصلاح وتنظيم المؤسسات، وتجعل المواطن يشعر بأنه حقا أمام دستور جديد، يدعوه إلى الانخراط في المبادرة لاحتضانه والتجاوب معه، والإقبال على عملية المشاركة الفعالة في عملية الاستفتاء والاستجابة لذلك بقول «نعم»، تأدية لشهادةٍ مطلوبة شرعا وواجبٍ وطني يستوجبه حب الوطن والتعلق به والتفاني في النهوض به، مستحضرا في ذلك قول الله تعالى: (إنما كان قول المومنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون، ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون)»، كما ورد في الخطبة أيضا: «فما علينا إلا أن نستجيب لواجب الوطن، ونسهم بذلك في الإصلاح والنهوض المرجو لبلدنا، في ظل القيادة الرشيدة، الحكيمة والمتبصرة لجلالته، مستحضرين في ذلك ما يكون عليه شأن المؤمن من طاعة الله وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر في أمته، امتثالا لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)».. فكيف أصبح التصويت ب«نعم» واجبا وطنيا ودينيا، بمعنى من أن لم يصوت يكون قد أخل بواجب وطني وديني؟ وكيف يُعتبر التصويت ب«نعم» عملية متفرعة عن واجب طاعة الله ورسوله وولي الأمر؟ أليس وليّ الأمر نفسه هو الذي أمر بوضع ورقة (لا) في مكاتب التصويت؟ وما دخل الطاعة في قضية يكون فيها المطلوب من المواطن إبداء رأيه؟ معنى ذلك أن الخطبة، التي فرضتها وزارة للسيادة يختار الملك الوزير المكلف بها مباشرة، تسبغ على أحد الاختيارين المطروحين وصف الواجب الوطني والديني الموافق لالتزام طاعة الله ورسوله وولي الأمر، بمعنى أن الذي لم يصوت ب«نعم» يخالف بذلك فرضا دينيا ويعصي الله ورسوله، أما ولي الأمر فإذا كان علينا واجب طاعته بالتصويت ب«نعم» فلم يكن من الضروري أصلا تنظيم استفتاء وتوزيع بطائق وتعيين مراكز للتصويت. أليس في خطبة الجمعة نوع من «الإكراه المعنوي» الذي أُخضع له الناخبون المغاربة المسلمون؟ هل يجوز تصويت المُكْرَه؟ وهل يكون هناك معنى لأرقام حتى ولو كانت صحيحة -وهذا ما نشك فيه- نجمت عن استفتاء غشته هذه الحالة من الضغط باستعمال سلطة دينية لمؤسسة عمومية رسمية مطوقة بواجب الحياد وحماية الاختيار الحر للناخبين؟ هذا وجه للضغط مورس علنا، فيعلم الله حجم الضغط الذي قد يكون مورس بطرق مستترة !