يحكي الكثير من المغاربة الذين عايشوا مشروع دستور 1962 أن الدعاية التي أطلقت آنذاك لتقديم المشروع هي «دستور الله» و«دستور رسول الله»، كما يتذكر الكثيرون أن المراجعات الدستورية لسنوات 70، 72، 92 ارتبطت بالاحتفالات والأغاني الوطنية. وداخل أسلوب العرض الاحتفالي، اعتبرت التعديلات الدستورية آنذاك لحظة لاختبار موازين القوى وإعادة تطعيم المشروعية للسلطة، عارضة الدستور والمعارضة الرافضة للدستور. وفي سنة 1995، دعا الملك الحسن الثاني إلى تعديل دستوري يشمل مادة وحيدة، لم يكن الهدف منه تقنيا وإنما لإعادة بناء الجسر السياسي مع المعارضة التي شاركت في تعديلات 1996 وشكلت حكومة التناوب فيما بعد. ورغم تغير المعطيات، شاهدنا عبر العديد من القنوات الفضائية والوطنية «الدعاة الجدد» إلى المقاطعة يقرؤون السلوك الداعي إلى التصويت على الدستور ب«نعم» بنفس طريقة الستينيات والسبعينيات، وهو تقييم غير صحيح وغير مدرك للتحولات العميقة التي يعيشها المجتمع المغربي، فالمواطن تغيرت ثقافته السياسية، إذ لوحظ أن هناك طلبا على المعرفة الدستورية، فالفصل التاسع عشر نوقش في الدروب والأحياء والمداشر، كما لوحظ أن هناك طرحا لمجموعة مشاكل أثناء النقاش على الدستور، ففي أحد اللقاءات الشارحة للدستور تعددت التدخلات بين سيدة عجوز تقول إن ابنها اعتقل وحوكم ظلما، وأخرى تقول إن أرضها انتزعت بدون اتباع مساطر قانونية، وثالثة تقول إنه للحصول على موعد في المستشفى يجب انتظار ثلاثة أشهر على الأقل، وشاب يقول: هل الدستور يضمن لي العمل؟ لكن المثير للانتباه أن كل المطالب التي تطرح أثناء النقاشات المفتوحة حول مشروع الدستور تنتهي بالقول إنهن وإنهم سيصوتون على الدستور ب«نعم»، بل إن البعض يضع أمامه صورة ما يجري في بعض دول العالم العربي ويقول إنه سيقول «نعم» للدستور لأنه لا يريد أن يعيش أيامه لاجئا على حدود دولة ما، إنه تطور في ثقافة التقييم لدى المغاربة لا يمكن لأحد أن يتجاهله. إن هذه الظاهرة الجديدة، المتمثلة في الطلب على معرفة الدستور المتسائلة عن درجة تنظيم مجالات اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية في تعبيرات دستورية، تعكس، في علم النفس السياسي، بحثا عن تعاقد سياسي بين حاكمين، يعرضون طريقة ومنهجية حكمهم، ومحكومين، يقيسون درجة تعبير الدستور عن مطالبهم وحاجياتهم. وفي يوم الاستفتاء يحدث التعاقد، لأن الدستور عقد سياسي، وهو ما كان على بعض «شارحي الدستور» في القناة الأولى تقديمه وتبسيطه للمواطن. ولنكن واقعيين، نحن -لأول مرة منذ 1962 - أمام دستور جديد، تمت صياغته باستعمال الأجيال الثلاثة من الدساتير: دستور فصل السلطات بمعنى تنظيم العلاقة بين السلطات، ودستور صك الحقوق الذي يحيل على حجم حريات وحقوق المواطن، والدستور التدبيري المرتبط بإعادة توزيع السلطة من الحكومة إلى الجماعات الترابية وبأدوات الحكامة، دستور تمت صياغته بثلاث طرق: صياغة في شكل إعلانات، وصياغة تجيب عن وقائع وأحداث (1996-2011)، وصياغة مبنية على توافقات سياسية وتوافقات اجتماعية (جيلية). اليوم الجمعة سيصوت المغاربة على الدستور ب«نعم»، وسوف نكون لأول مرة أمام نسبة دالة للاستفتاء، لكن يجب الانتباه إلى بعض الظواهر منها: أولا، أن سلوك المقاطعة هو سلوك سياسي يوضع خارج اللعبة السياسية، ويبدو أن سلوك الدولة تقدم مقارنة بسلوك المقاطعين، إذ إنها فتحت الإعلام لتيار المقاطعة، رغم أن الأصل هو المشاركة السياسية والاختيار بين «نعم» و«لا» وليس المقاطعة. وهنا يلاحظ أننا أمام سلوك غير عادي من خلال مطلب المقاطعين بالحق في الإعلام الذي هو جزء من اللعبة السياسية، يراد توظيفه من طرف المقاطعين للخروج عن قواعد اللعبة السياسية المبنية على الموافقة «نعم» أو الرفض «لا» وليس المقاطعة. ثانيا، حالة توازنات الدولة التي يجب الانتباه إليها، والتي ترتبط في عنصر أول بالكيفية التي ستتعامل بها الدولة مع حركة 20 فبراير بعد التصويت على الدستور؟ وهل حللت الدولة نفسية أعضاء الحركة واعتقاداتهم؟ هل خلقت الحركة بعد أربعة أشهر تصورات إيديولوجية؟ ما هي الحسابات التي يشتغل عليها كل واحد من حركة 20 فبراير وكيف سيكون بعد التصويت على الدستور؟ ويرتبط العنصر الثاني بالوضع البشري الحزبي، فالمجتمع، الذي يعيش حاليا النقاشات الدستورية، تقابله ظاهرة الصراعات ذات الدلالة الانتخابية وبداية النزوح والهجرات من حزب إلى آخر، التي قد تفسر إيجابيا بكون نتائج الفصل 61 من مشروع الدستور (المانعة للترحال) بدأت تعطي نتائجها قبل دخولها حيز التطبيق، لكن المخاطر هي أن نفس النخب الحزبية القديمة تستعد للانتخابات، والسيناريو الموضوع أمامنا هو إمكانية عودة حوالي 80 في المائة من النخب البرلمانية الحالية، ولا يبدو إلى حد الآن أن السلطات العمومية تفكر في آلية للحيلولة دون هذه العودة التي قد تعوِّم المضامين القوية للدستور وتخلق الاعتقاد بعدم التغيير. العنصر الثالث هو حالة جماعة العدل والإحسان التي أصبح واضحا أنها لم تعد حركة دعوية تربوية كما كانت تقدم نفسها، وإنما حولتها المشاركة في حركة 20 فبراير إلى حركة سياسية واضحة المعالم، لم يعد أمامها خيار غير التحول إلى حزب سياسي، وإلا سيصعب التعامل معها. العنصر الرابع مرتبط بالتداعيات الممكنة للنقاشات التي قادها حزب العدالة والتنمية حول هوية الدولة و«مدنية الدولة» التي أثارت نقاشا كبيرا إلى درجة تصريح أحد القياديين في العدالة والتنمية بأن الحزب «انتصر في قضية الهوية»، وهي حالة يجب الانتباه إليها لأن التوازن، الذي انطلق منذ عشر سنوات وجعل المجتمع متكافئا بين الحداثيين والسلفيين المعتدلين، يهتز حاليا أمامنا، فحضور التيارات الحداثية يكاد يكون غائبا، بل إن السلفيين المعتدلين رفعوا سقف مطالبهم، ليس فقط في قضية هوية الدولة وإنما في توظيف الشارع، فيوم الأحد الماضي نزلت أعداد كبيرة من السلفيين المعتدلين إلى الساحة الكبرى ل«جيليز» في مراكش وحملوا شعارات مؤيدة للدستور، لكن المثير فيها هو حملهم لشعارات ذات مضامين تنم عن المساومة مثل «نعم للدستور تساوي نعم لفتح دور القرآن»، وإقامتهم لصلاة جماعية في الساحة في وقت كانت فيه جمعيات مدنية مؤيدة للدستور تنتظر دورها للتعبير وشرح حجج تصويتها ب«نعم». وتقود هذه العناصر الأولية إلى طرح التساؤل التالي: هل تملك السلطات العمومية رؤية للاشتغال على مرحلة ما بعد التصويت على الدستور، سيتم التصويت على الدستور ب«نعم»، ولكن يجب الانتباه إلى ما بعد «نعم»، فالمجتمع والفاعلون فيه أنتجوا، خلال المدة الفاصلة ما بين بداية النقاش حول الإصلاح الدستوري إلى حدود أيام قليلة من التصويت عليه، حالات تحتاج إلى الدراسة من مدخل توازن الدولة أهمها، قبل الانتخابات التشريعية المقبلة، معالجة المعادلة التالية: الكل يعرف دور حزب العدالة والتنمية والسلفيين المعتدلين المؤيدين له في التوازن السياسي والاجتماعي وفي محاربة السلفية الجهادية والنزوعات السياسية للعدل والإحسان، ولكن يجب الانتباه إلى حالة التوازن مع الحداثيين وإلى الاشتغال على استقطاب الجناح الإصلاحي لحركة 20 فبراير في المنظومة السياسية الجديدة بعد التصويت على الدستور تجنبا لمخاطر «اليأس».