لم يكن خطاب أوباما الثاني الذي وجهه إلى العالمين العربي والإسلامي يحمل شيئا جديدا سوى معاودة دغدغة العواطف، حيث أعلن دعمه للثورات العربية، مشيدا بأنها تعبير عن القيم العالمية الناشدة للحرية والكرامة، ومؤكدا أن استراتيجية القمع لم تعد صالحة وأن الثورات التي أزاحت حاكمين قد تنحي آخرين، وأعلن عن مساعدات اقتصادية أمريكية لتحفيز التحول الديمقراطي الجاري في العالم العربي، فضلا عن تحدثه عن قيم الحرية. لكن اللافت للنظر أنه تجاهل الفلسطينيين المضطهدين من قبل إسرائيل وتركهم بدون حماية دولية فاعلة. وبالرغم مما ذكره أوباما في معرض كلامه، الموجه خصوصا إلى العالم العربي عقب التحول الذي أخذ يشهده، فإن ما يمكن أن نستشفه من ذلك هو جوهر النفاق الذي تتسم به كل القيادات الأمريكية المتعاقبة على سدة الحكم في البيت الأبيض حيال القضايا العربية، فكل ما جاء في خطاب أوباما ليس من أجل سواد عيون الشعوب التي أسقطت بعض الأنظمة بتنحية رؤسائها عن السلطة والتي كانت تخدم مصالح أمريكا وتنال مقابل ذلك مكاسب زيادة على الرضى الأمريكي، فقد كان حسني مبارك يحصل على الملايير من الدولار الأمريكي من أجل ضمان هيمنة إسرائيل في المنطقة العربية والحفاظ على أمنها، أما التونسي بنعلي فلم يكن يقل أهمية عن مبارك في العمالة لأمريكا بالمغرب العربي. بالمقابل، ظل الأمريكيون ينظرون بعين الريبة إلى نظام حليفهم علي صالح الذي أصبح مهددا بالتنحية عن السلطة، والذي لعبت أمريكا دورا كبيرا في نجاحه في دحر الحوثيين، وبنفس عين الريبة تنظر أيضا إلى القذافي الذي بات نظامه يترنح تحت الضربات الموجعة لحلف شمال الأطلسي والثوار الذين ما لبثوا يزحفون نحو القصر الرئاسي في طرابلس، وهم الآن قاب قوسين أو أدنى من دخوله دخول الفاتحين وهم يؤكدون أن ذلك مسألة وقت ليس إلا. القذافي، انبطح لأمريكا بتفكيكه لبرنامجه النووي، توجسا من غزو شبيه بالغزو الذي أرجع العراق إلى العصر الحجري.. كل هؤلاء الرؤساء كانوا مطيعين لسيدتهم أمريكا، وشكلت أنظمتهم الديكتاتورية عصب السياسة الداعمة للتغول الإسرائيلي في المنطقة. لقد تحدث أوباما بلغة عفا عنها الزمن، ذلك أن كلامه في الخطاب يعود إلى مرحلة الحرب الباردة، ولا يتماشى مع العصر الحديث والتطورات التي تعرفها المنطقة العربية.. فقد اتبع نهج سلفه في إدارة النظام العالمي الجديد وفق مشيئة أمريكا والذي طرح في الأجندة الأمريكية في بداية القرن العشرين والمتماشي مع أطروحة حكماء صهيون لإجبار العالم على الانصياع للسيطرة الصهيو/أمريكية.. وفي ظل تفاقم مشاعر الغضب بنزول الشعوب إلى الشوارع للمطالبة بالحد الأدنى من الكرامة والحريات، يواجهون برصاص قوات القمع الدموي، فيزداد المشهد مأساوية، لا الرؤساء الثلاثة اتخذوا القرارات التغييرية المطلوبة ولا هم تنحوا عن السلطة لحقن الدماء ووقف دوامة الاقتتال والعمل على توزيع عادل للثروة، وضمان حقوق الإنسان وقضاء مستقل وحرية الصحافة.. فمهما طالت الحرب بين الثائرين وطغاة الأنظمة العربية الأشد ديكتاتورية، فإن الطوفان الشعبي العارم سيتمكن من جرف كل ما يجده أمامه.. في وقت يعتقد فيه كثيرون أن بشار الأسد والقذافي وصالح وجدوا آليات مضادة ترغم الثوار على التراجع بقوة الحديد والنار لأنهم يرون فيها أسلوبا أمثل وأجدى لإنهاء الانتفاضة الشعبية الديمقراطية المشروعة.. وفي هذا السياق، لم تستطع أمريكا الدخول في مواجهة مع الغليان الشعبي العربي في مختلف الدول، سواء منها الحليفة أو تلك التي تكن العداء لبلد العام سام، لأن إدارة هذه الأخيرة بواشنطن تتعامل مع كلا الطرفين بأسلوب ازدواجية المعايير حفاظا على مصالحها، وقد تكون بشأن ذلك حليفة كما قد تنقلب عدوة في لمح البصر، حسب ما تمليه المصلحة التي تعلو فوق أي اعتبارات أخرى.. وإذا نبشنا في بطون التاريخ بالأمس القريب وجدنا أن أمريكا لا صديق لديها، وأنها لعبت أدوارا سياسية متقلبة الأطوار في جميع أنحاء العالم، ففي ثمانينيات القرن المنصرم لم تقدر على إنقاذ نظام حليفها الشاه من السقوط بين أيدي الثورة الخمينية. وفي ذات السياق، تحالفت مع العراق في حربه ضد إيران وقامت في الآن نفسه بتفويت السلاح إلى هذه الأخيرة في أكثر «فضائح صفقات الأسلحة» إثارة للجدل آنذاك في ما يسمى ب«إيران غيت» خلال الولاية الأولى للرئيس «رونالد ريغان»، ويوم انقلبت على عميل مخابراتها نورويكا وقامت باعتقاله من عقر قصره عقب تمرده عليها.. هذه هي أمريكا التي بإمكانها أن تتحالف معك ثم تنقلب ضدك في اليوم الموالي، الأمر الذي حدث مع صدام يوم دفعه بوش الأب إلى دخول الكويت ثم انقلب عليه وأغار عليه في عملية «عاصفة الصحراء» بدعوى تحريرها، كما أن أمريكا دعمت بن لادن في مقاومته للاحتلال السوفياتي في أفغانستان، ثم عادت لتناصبه العداء وتطارده في إطار ما أطلقت عليه الحرب على الإرهاب.. وفي هذا السياق، كان من شأن هذه الثورات العربية الراغبة في إسقاط رموز الفساد أن تندلع بالمنطقة في أية لحظة، لأن سيل التهميش والإقصاء الذي طال الشعوب من قبل أنظمتها وصل الزبى ولم يعد يطاق بعدما طال أمده بالرغم من مجيء زمن حقوق الإنسان والعولمة، وأجلت هذه الثورات لعقدين من الزمن في ظل انعدام التقاطب الدولي الذي استفردت به أمريكا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، ذلك أن الحرب الباردة ساهمت في تغول الأنظمة العربية وبسطها هيمنتها الدكتاتورية على شعوبها، وهو ما لم يتحقق لها في الوقت الراهن لأن أمريكا لم تجد ندا يلعب دورا في معادلة التحالف القطبي: إما تهييج الثوار ضد الأنظمة كما هو واقع حال الآن أو العكس بوضعهم في ثلاجة الحرب الباردة التي لم يعد لها وجود منذ عقدين من الزمن في وقت كانت فيه الثورات بمثابة الأفعى التي انقطعت حركتها نتيجة تجمدها بفعل برودة الحرب، لكن ما لبثت أن دبت فيها الحركة بحرارة تجليات حقوق الإنسان.. رمضان بنسعدون - صحفي/عين بني مطهر