كما كشف تقرير «يونسكو» للعلوم لسنة 2010 أن المغرب يوجد في مرتبة جد متدنية عربيا، من حيث مؤشر التحاق الطلبة بالتعليم العالي، محتلا الرتبة ما قبل الأخيرة، ب12.3 في المائة، ودرجة جد متواضعة في مؤشر الإنتاج العلمي على الصعيد العربي. وفضلا على تدني ميزانية البحث العلمي الوطني، التي لا تتجاوز 0.8 في المائة من الناتج القومي الخام، دون أن تصل، على الأقل، إلى واحد في المائة من هذا الناتج الذي توقعه الميثاق الوطني للتربية والتكوين في نهاية عشريته، فإن مراكز الفكر والبحث، التي تتوفر عليها البلاد، لا تتجاوز 10 مراكز، دون أن يصنف منها على المستوى الدولي إلا مركز واحد، هو «مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية»، الذي يترأسه الدكتور عبد الله ساعف، حسب التقرير الذي أعدته جامعة بنسيلفانيا، الأمريكية، سنة 2009 حول مراكز الفكر التي تصدرتها عالميا الولاياتالمتحدةالأمريكية ب1815 مركزا، تليها الصين ب428 مركزا، ثم بريطانيا ب285 مركزا فالهند ب261 مركزا وألمانيا ب190 مركزا وفرنسا ب132 مركزاً. إذا عرفنا أن مراكز الفكر(Think Tanks) أو التفكير الإستراتيجي دعامة أساسية لا يستغنى عنها في العالم المتقدم، قوامها طاقات من الكفاءات والمؤهلات والخبرات العليا في مختلف شعب العلم والمعرفة، وتشريع قانوني واستقلالية تنظيمية هيكلية ومالية وعلمية منخرطة مباشرة في تنمية وتقدم شؤون البلاد في شتى مناحيها وميادينها، مؤثرة في أصحاب القرار والرأي العام، بإنجازها أبحاثا ومواكبات علمية استقرائية وتحليلية مطّردة لمختلف القضايا المطروحة والطارئة والمتوقعة والمفترَضة بغية رفدهما بنتائجها البحثية، من حلول ومقترحات ومعارف تفيدهما في حسن تدبير وتسيير ومعالجة الأمور واتخاذ القرارات وكذا تنوير الرأي العامّ، باختلاف طبقاته، بما تجنيه من ثمار البحث على جميع الأصعدة، فإن مراكز الفكر والبحث، بهذا المفهوم، تكاد تكون منعدمة، إن لم نقل إنها منعدمة في العالم العربي، بما فيه بلدنا، وإلا لَما عرف الدكاترة المغاربة، وعلى وجه التحديد المعطلون والعاملون في أسلاك الوظيفة العمومية، هذه الوضعية المزرية المفتعلة، ولكان المغرب في مرتبة مشرفة غير المرتبة المحتشمة والخطيرة التي يُصنَّف فيها في سلم الرقي الدولي، إذ كان كافيا أن تمتص مثل هذه المراكز في وطننا ثرواتنا العلمية الوطنية العليا المهدورة، بأصنافها الثلاثة المهاجرة والمعطلة والعاملة في أسلاك الوظيفة العمومية، وتستفيد منها استفادة تصب في قلب النماء والتقدم. إن غياب نظائر هذه المراكز في بلدنا يفسر ويترجم ليس فقط الأوضاع التي آلت إليها البلاد وإنما كذلك مدى «تكالب» أصحاب الحل والعقد والقرار على وضع الدكتور. لقد استُنزِف كثير من الدعم والوقت والخطابات والندوات واللقاءات والتكوينات في موضوع إصلاح التعليم في المغرب دون النفاذ إلى عمق الإشكال وفك العقال منذ انطلاق العمل بالميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي أبان عن فشله قبل تمام عشريته واستدراك هزاله بالبرنامج الاستعجالي، أي المعروف بإصلاح إصلاح التعليم، الذي أبان، بدوره، عن إخفاقه وضياع المزيد من الطاقات المادية والبشرية والزمنية.. وهكذا دواليك سنجد أنفسنا أمام «إصلاح إصلاح الإصلاح» إلى ما لانهاية، إذا بقي العمل على هذه الوتيرة. أمام هذا الوضع المتردي لحال قطاع التربية والتكوين في المغرب، نرى أنه من التفكير «البيزنطي» التطرق لموضوعات «براقة» سابقة لأوانها، كموضوع «تقويم الجودة والإنصاف في منظومة التربية والتكوين» من طرف الهيأة الوطنية للتقويم لدى المجلس الأعلى للتعليم، المتناوَل يومي 20 و21 أبريل 2010، في حين أن الطرف الرئيس المعني والمسؤول بمسألة التقييم والتقويم هي مدرسة المفتشين التي أغلقت منذ 13 سنة، إذ تضاءلت نسبة المفتشين بشكل خطير وانتقلت من 6665 مفتشا ومفتشة سنة 2005 إلى 2700 سنة 2010، بفعل المغادرة الطوعية لعدد كبير من المفتشين، رغم ارتفاع عدد المؤسسات إلى 9397 وتجاوز الأساتذة نسبة 218 ألف أستاذ وأستاذة سنة 2009. إنه لا طائل من استنزاف المال والكلام في قضايا تفتقر إلى مسبقات بنيوية من أجل تحقيقها على أرض الواقع، من أهمها كيفية الاستفادة الجيدة من المحاصيل واستثمارها استثمارا ذا مردودية بتهييء الظروف القانونية والمادية اللوجيستيكية والمعرفية لثمار المتخرجين الدكاترة الذين يجدر إيلاؤهم فائق الرعاية والاهتمام، منذ تسجيل أطروحاتهم إلى حين تقلدهم وظائفهم. إن وجوب هذا الصنيع ليس مِنّة من أحد، بل هو واجب وطني وعلمي وإنساني وحافز من حوافز النجاح، سواء بالنسبة إلى التلاميذ في التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي أو الطلبة الباحثين، بمختلف مستوياتهم. إن الفشل الذريع الذي تصاب به أي منظومة أو نظامِ تعليم لأي شَعْب من الشعوب هو انعدام هذا الحافز، أي ذلك الواجب الأوجب، وهذا ما يفسر فشل السياسات التعليمية في بلادنا، لأنه ما الفائدة من أن يكون مصير الخريجين الدكاترة وغيرهم بطالة مقرونة بالضرب واللكم والسب والشتم لمدة طويلة من الزمن، إلى أن يتم توظيفهم وإسناد مهام غير مناسبة لهم ولتكوينهم الأكاديمي في الغالب الأعم، هذا إن واظبوا بانتظام على النزول إلى حلبات وقفاتهم ونضالاتهم الاحتجاجية، وإلا فمآلهم البطالة ولا شيء غير البطالة أو الهجرة خارج الوطن، في أغلب الأحوال. إن هذا الفشل يجد تبريره في هذا المصير المزري، الذي «فرّخته» سياستنا التعليمية، خاصة منذ الإقرار بنظام مباراة توظيف الدكاترة كأساتذة مساعدين وقانون الأصفار الثلاثة المنوط بتنظيم التعليم العالي: 01.00، مرورا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين وانتهاء بالبرنامج الاستعجالي. كل هذه النظم لم تُعِرْ اهتماما لهؤلاء الخريجين، وكأنهم لا يدخلون في شرط أو حظيرة منظومة التربية والتعليم، لكونهم، بتخرجهم «خرجوا» عن دائرتها، أي لم يصبحوا «عالة» على وزارة التربية الوطنية، وعليه وجب الاعتماد على أنفسهم بعدما «منّت» عليهم الوزارة بشهاداتها الخيرية. ومما يؤكد طرحي هذا حول هذا الإخفاق الذي مني به تعليمنا الراهن بانعدام ذلكم الحافز المصدري، هو أنه رغم الميزانية الضخمة اللا مسبوقة في تاريخ التعليم المغربي، والتي تجاوزت 43 مليار درهم المخصصة لقطاع التعليم قصد تمويل برنامجه الاستعجالي، ليحتل بذلك المغرب المرتبة متقدمة بين الدول العربية من حيث الإنفاق العام على هذا القطاع، فإن واقع منظومة التعليم عرف مزيدا من التقهقر والنكوص، الأمر الذي يؤشر على أن أزمة التعليم أكثر من أن تكون مادية.. إنها أزمة تحفيزية بنيوية هرمية تشمل القاعدة والقمة، على حد سواء. لقد طغى عليها هاجس الأمن والمال ومحاربة الأمية على حساب الحوافز ومراميها التنموية الحضارية. هذا ما أستشفه، على سبيل المثال، من البرنامج الاستعجالي، الذي سلم بإجبارية التعليم إلى سن الخامسة عشر وإنجاح التلميذ، رغم عدم توفره على المعدل بنسب متفاوتة، وكذا من خلال تساوي الحاصلين على دبلوم الدراسات العليا المعمقة والمتخصصة والماستر والدكتوراه ودكتوراه الدولة في الدرجة والسلم، اللذين يخولهما لهم نظام الوظيفة العمومية، بمختلف أسلاكها، حيث نجد أغلب الموظفين من ذوي الشهادتين الأولى والثانية يضربون صفحا عن مواصلة الدراسة والبحث والتحصيل الأكاديمي، ما دام أنهم قورنوا وتساووا بأصحاب دكتوراه الدولة والدكتوراه، الذين يمتنعون، في غالبيتهم، عن مواصلة البحث العلمي جراء هذا التبخيس وأداء «أتاوات» العلم والمعرفة والبطالة المزمنة من أجل التوظيف المجحف، وهكذا يصبح التعليم «مسرحية» مأساوية /ملهاتية بيزنطية تبتدئ من القاعدة لتصب في القمة، حيث أصبحت ضريبة البطالة وفاتورة الشتم والضرب والكر والفر واجبا وطنيا لتأديتهما من طرف حاملي الشواهد العليا حتى يتم ولوجهم الوظائف العشوائية بعد سنين من العراقيل والمثبطات، وعليه تذوب دينامية الجدل والحياة، فيتساوى الرسوب والنجاح والقعود والقيام.. ونسقط في سديم من المتناقضات، حيث تتشابه الوسيلة والغاية وغيرها من الثنائيات. إن الإصلاح ينبغي أن يكون منظومة متكاملة شاملة لجميع مراحل التعليم، بما فيها حقوق الطالب والمطلوب، إنها لا تنتهي بانتهاء تسجيل أو مناقشة الطالب الدكتور لأطروحته، بل يدخل في صميمها مآل هذه الثمرة العلمية الوطنية ومنتجها.. إن سكوت منظومة التربية والتكوين عن أنتجِ وأنضج وأكمل مرحلة من عمر التعليم في بلادنا، و هي مرحلة ما بعد سلك الدكتوراه، لَيُعدّ من أبرز مواطن ضعف هذه المنظومة وعوامل إخفاقها... يتبع