يتأكد يوما بعد آخر أن مغرب ما بعد 20 فبراير سيكون مخالفا لما قبله، ويتضح لحظة بعد أخرى أن الحركية التي خلقتها حركة 20 فبراير والهيئات الداعمة لها تسير في اتجاه بناء مغرب جديد هو مطمح فئات واسعة من الشعب، ولكنها -بالمقابل- كابوس مزعج لفئات متضررة من هذا العمل المتنامي، ولن يدخر هؤلاء جهدا في إفساد فرحة المغاربة والدفاع عن مواقعهم. لقد شكلت محطة 24 أبريل لحظة حاسمة في المسار الاحتجاجي لهذه الحركة، وأكدت -لمن ما زالت عنده ذرة شك- أنه مسار تصاعدي، كمّاً ونوعاً، يتنامى بوتيرة سريعة، فقد تضاعف عدد المناطق التي استجابت لنداء التظاهر السلمي في الشارع حتى فاق المائة، وهو رقم قياسي لم تشهده بلادنا من قبل، وتزايد عدد المشاركين بشكل ملحوظ في مختلف المناطق، والتحقت فئات جديدة بساحات الاحتجاج، وتميز هذا اليوم بلافتاته وشعاراته الموحدة التي تضمنت مطالب محددة ودقيقة ومحينة ورافضة لكل الاستجابات الجزئية التي تهدف إلى الالتفاف والمناورة ليس إلا، كما تميزت المسيرات بحسن التنظيم وطابعها السلمي الذي لم تتخلله حوادث عنف أو شغب، وتميزت كذلك بالانسجام والتلقائية بين مختلف مكونات هذه الحركة والمشاركين في المسيرات. يمكن اعتبار هذا اليوم مناسبة أخرى لكل من كان متحاملا على هذه الحركة ومشككا في نواياها وقدرتها على الاستمرار ليعيد النظر في مواقفه الجاهزة والمسبقة التي وضعته على هامش حركية مجتمعية أدخلت تغييرات جوهرية على المشهد السياسي وأحدثت فرزا حقيقيا داخل المجتمع وأعادت الثقة إلى فئات واسعة من الشعب. ولأن أعداء التغيير كثر، سواء في الداخل أو الخارج، فقد كان منتظرا حدوث مفاجآت وارتدادات هدفها خلط الأوراق والإلهاء وإرجاع عجلة هذه الدينامية إلى الصفر، وسلط من أجل ذلك الإعلام العمومي لتمييع الجو واحتواء الموجة وتشويه مكونات الحركة والتشكيك في نياتهم وبذل مجهود لشراء صمتهم والتغطية على المطالب الحقيقية للحركة وامتصاص غضبها، واتخذت إجراءات للحيلولة دون مشاركة أوسع لفئات حساسة من الشعب في هذه المسيرات. ولكن، رغم كل ذلك، لم يخطر ببال أحد أن يصل التضييق إلى حد استهداف الصحافة المستقلة واعتقال صحافي بارز والتلويح رسميا بمتابعته بقانون الإرهاب -الذي تتسع دائرة المطالبين بإلغائه- والإصرار على رفض تمتيعه بالسراح المؤقت رغم توفره على كل ضمانات المثول أمام المحكمة، والإصرار على متابعته بمقتضيات القانون الجنائي عوض قانون الصحافة رغم أن موضوع المتابعة يتعلق بمقالات رأي منشورة في جريدة. كانت هذه رسالة إلى كل الصحافيين، وقبلهم إلى كل مكونات حركة 20 فبراير، وكان إجراء الاعتقال جس نبض لدرجة نضج هذه المكونات ومبدئيتها وقدرتها على تناسي الخلافات الجزئية ومدى استحضارها للقواسم المشتركة. لقد كان الذين يقفون وراء اعتقال رشيد نيني يراهنون على كثرة خصومه ويعولون على حيادهم السلبي، على الأقل، تجاه اعتقاله ليمرروا مخططا يبدأ باستباحة اعتقال الصحافي كمؤشر على القدرة على اختراق مكونات الحركة باستغلال الاختلافات بينها والنفخ فيها وتضخيمها، ولكن سرعان ما تبين خطأ تقديرهم في أول محطة بعد الاعتقال، وهي مسيرات فاتح ماي التي حضرت فيها قضية «نيني» و«المساء» في صدارة مطالب الحركة التي طالما طالبت بتحرير الإعلام واستقلال القضاء في شعاراتها. مرة أخرى، بينت حركة 20 فبراير أنها وليدة وقتها وأن البلاد في حاجة إليها في هذه اللحظة التي يتشكل فيها ميزان قوى جديد تعمل جهات خفية على إبقائه راجحا لفائدتها ومغيبا لرأي عام يطمح إلى بناء مغرب مغاير. لقد ساهم تبني حركة 20 فبراير لقضية «رشيد نيني و«المساء»» في خلق حالة فرز ثانية في المجتمع، حيث شهد الملف مؤازرة غير مسبوقة للمكونات الحقوقية والإعلامية والسياسية والمدنية، بما فيها تلك التي لها اختلافات متفاوتة مع رشيد نيني والخط التحريري لجريدة «المساء»، والسبب أن الجميع تنبه إلى سياق الاعتقال والتضييق والمحاكمة وترفع عن الطابع الشخصي للملف وفهم الخلفيات والدوافع التي تحرك هذه المتابعة في هذه اللحظة الحساسة من تاريخ البلاد. هذا مؤشر هام وتحول نوعي في التعاطي مع قضايا بهذا الحجم والحساسية، وهي قضايا يتحقق حولها إجماع حقيقي والتفاف تلقائي واستعداد تطوعي لإيقاف «تغول» أجهزة تريد جر البلاد إلى الخلف وحرمان الشعب من شم نسائم هذا الربيع الديمقراطي الذي يجتاح هذه المنطقة القاحلة. وسيتضح، إن شاء الله، هذا الإجماع أكثر في باقي أطوار المحاكمة، سواء من خلال التركيبة النوعية والعددية لهيئة الدفاع أو تمثيلية هيئة الدعم والمساندة أو الأشكال التضامنية المحلية والمركزية والدولية أو حجم المراقبة الحقوقية والمتابعة الإعلامية لجلسات المحاكمة أو طبيعة المرافعات التي ستؤكد، لا محالة، أن هذه القضية أكبر من استهداف شخص أو جريدة، ولكنها مقدمة لاستهداف حركية مجتمعية اقتنعت بأن التوقيت مناسب لمواجهة الفساد والاستبداد والمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة والمواطنة الحقيقية. والأمر الثاني، الذي لا يقل أهمية عما سبق، هو مبادرة شباب 20 فبراير إلى الرد على التفجيرات الإجرامية التي استهدفت أرواح أبرياء في مقهى «أركانة» بمراكش، وقد تجلى ذلك الرد في تنظيم مسيرة وطنية شعبية، دعوة وتنظيما ومشاركة، منددة بهذا الحادث الإجرامي أيا كانت الجهة التي تقف وراءه وأيا كانت دوافعها، مع التحذير من مغبة استغلال هذا الحادث للمس بالحريات وحقوق الإنسان، وفي مقدمتها الحق في التظاهر السلمي. وفي هذه المواقف استباق لأي محاولة لإرجاع البلاد إلى أجواء ما بعد 16 ماي 2003 التي لم نتخلص من تداعياتها إلى يومنا هذا. لقد كانت هذه الحركة في مستوى اللحظة، وأثبتت أكثر من مرة انسجامها مع منطلقاتها وانتصارها لقيم المواطنة ويقظتها تجاه كل المؤامرات التي تحاك ضدها وانفتاحها ومرونتها في تبني القضايا المستجدة التي تنسجم مع مبادئها، ولذلك فهي مكسب للمغرب والمغاربة يجب حمايته وتحصينه واحتضانه لأنها الوسيلة الأضمن لمواجهة لوبيات الفساد وجيوب مقاومة التغيير. أتمنى أن تكون الرسالة وصلت إلى كل مخالف أو مشكك أو محارب لهذه الحركة.