أشار الماريشال في كتابه «أقوال الفعل» (الصادر عام 1927 عن منشورات أرمان كولان) إلى وجود دولة مغربية ونخبة سياسية ودينية واقتصادية من العبث تجاهلها «لأن هذه النخبة هي على ارتباط وثيق بالعمل الذي علينا إنجازه بالمغرب. وتجب إضافة أن هذا البلد يتوفر على عنصر أو «عرق» شغيل، ذكي ومنفتح على التقدم، يمكننا الاستفادة منه كثيرا شريطة تخلصنا من الآراء المسبقة واحترام الأهالي». وتجدر الملاحظة إلى أن تاريخ النخبة المغربية ليس بالمتجانس ولا بالموحد. وضمن هذه التعددية يساير بعض الباحثين تطورات وتراجعات هذه السلطة، لأن النخبة تبقى في آخر المطاف سلطة مؤثرة ونافذة في نسيج المجتمع. في هذا الإطار يندرج البحث الذي أنجزه علي بنحدو. باستثناء بعض الدراسات المتفرقة والقطاعية، التي انصبت على المقاربة السوسيولوجية والأنثروبولوجية للنخبة بالمغرب، والتي يعزى أغلبها إلى باحثين أوروبيين أو أمريكيين، لا يتوفر حقل البحث الجامعي على خزانة مرجعية في هذا الموضوع. وتجمع أغلب الدراسات التي أنجزت في هذا الموضوع على استثنائية النخبة بالمغرب، اعتبارا للتاريخ العريق للبلد وتراص بنياته ومؤسساته، بل حتى المعمرون كانوا من أوائل من أشاد بتميز النخبة المغربية، التي تم تجنيدها لاحقا لخدمة أغراض ومآرب الاستعمار وما بعد الاستعمار. وفي هذا الإطار، أشار الماريشال في كتابه «أقوال الفعل» (الصادر عام 1927 عن منشورات أرمان كولان) إلى وجود دولة مغربية ونخبة سياسية ودينية واقتصادية من العبث تجاهلها «لأن هذه النخبة هي على ارتباط وثيق بالعمل الذي علينا إنجازه بالمغرب. وتجب إضافة أن هذا البلد يتوفر على عنصر أو «عرق» شغيل، ذكي ومنفتح على التقدم، يمكننا الاستفادة منه كثيرا شريطة تخلصنا من الآراء المسبقة واحترام الأهالي». وتجدر الملاحظة إلى أن تاريخ النخبة المغربية ليس بالمتجانس ولا بالموحد. وضمن هذه التعددية يساير بعض الباحثين تطورات وتراجعات هذه السلطة، لأن النخبة تبقى في آخر المطاف سلطة مؤثرة ونافذة في نسيج المجتمع. في هذا الإطار يندرج البحث الذي أنجزه علي بنحدو. وبعد أن بحث في مسألة تنظيم السلطة بالمغرب في كتابه المخصص للنخب في المغرب، الذي صدر عام 2010، ينكب الدارس في هذا البحث على مقاربة العالم المقدس للسلاطين، للأسياد وكبار الأعيان بالمملكة المغربية منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم. إذ للاستيلاء على السلطة فإن المحاربين ورجالات الدين والمتصوفة والرأسماليين ورجالات السياسة يحيكون المكائد والمصائد التي تعرض على المشهد التاريخي. من الرابح؟ من الخاسر؟ من يعتمد على من؟ من هو الطرف الذي يلعب ويسخر الطرف الآخر؟ لكن الرابحين والخاسرين يتقاسمون نفس التخوف من المستقبل الذي يعتبر مصدرا للصراع بين الفاعلين الذين يميل أغلبهم إلى الاستبداد التيوقراطي. أما البعض الآخر الذي تربى على القيم العالمية فيحث ويحض على الديمقراطية، لكن هذه الديمقراطية لا تلبث أن تظهر وجهها الشكلي. التناوب ووهم الحداثة يستند علي بنحدو على الوثائق والأرشيفات لإضاءة هذا التاريخ الثري بالأحداث والمفاجآت، وكذا على شهادات أهم الفاعلين الرئيسيين. منذ قرن من الزمن وعبر الكثير من الأجيال، لا يزال الصراع على السلطة هو من يحكم آلية المجتمع، لكنه يبقى صراعا عقلانيا، معقدا، يقوم على قدرة أو عدم قدرة المتصارعين الانصياع إلى قواعد غير مكتوبة متفق عليها حول لعبة النظام السياسي. لكن هذا النظام لا ينجح في ضمان استمراريته إلا إذا أحدث انقسامات داخل الجماعات المتآلفة الموحدة. النتيجة هي نشوب منافسات، بل تناحرات، مما يؤدي في الأخير إلى شلل المنظمات التي تعرب عن وجهها الحداثي. كما أن أحزاب الرأي، ومنذ 1965، تتراجع سنة بعد أخرى، مما نتجت عنه هزيمة تاريخية للفكر السياسي. وكانت لهذا الإخفاق آثار سلبية وجدت ترجمتها في شلل المؤسسات السياسية، الدينية والثقافية. عرف المسلسل الديمقراطي انبثاقته الحقيقية في مارس 1998. لكن التناوب بدل أن يكون بديلا ديمقراطيا، شكل على العكس قطيعة صادمة في الحياة السياسية المغربية. كان كسر فشله وهم الحداثة. خلق التناوب هاجسا قويا من الحيطة إزاء المسيرين والحكام الذين يتناسلون عن طريق الوراثة أو عن طريق التبني الانتقائي والانتشار في كل الأمكنة التي تمارس فيها السلطة بدون أي شرعية. تركات أبيسية، تحالفات سياسية، تقاطعات أو اختلاط لأصول «شريفة» أو غير شريفة. لا يزال هذا التقليد معمولا به على الرغم من كل الطفرات التاريخية. إحدى الخلاصات التي يستنتجها علي بنحدو، بعد دراسته البنيات وإعادة إنتاج نموذج النخبة على قواعد سلالية أو على قواعد التبني أو الاستحواذ، هي أن الديمقراطية في المغرب معلقة، مؤجلة، وأن المجتمع المدني الذي يشكل دعامة من الدعامات القوية لا يتوفر اليوم على قواعد صلبة لأن أصوله أصول «أوليغارشية»، كما أن مطالبه ليست في الحقيقة سوى مظاهر لمجموعات وهيئات، إما تنزع إلى السلطة أو تمارسها. فالمجتمع المدني قبل كل شيء بناء اجتماعي للسلطة، فبناء على الظهير رقم 1 – 58 – 376 المؤرخ ب15 نوفمبر 1958 والمعدل بظهير 10 أبريل 1973، فإن السلطة تحث الأفراد على إنشاء جمعيات ذات أهداف خيرية وليست سياسية. ويحرم على الراغبين في إنشاء هذه الجمعيات الخوض في النقاشات السياسية أو الدينية. تدخل الإدارة وبموجب هذا التدخل للإدارة، فإن المجتمع المدني لا يتوفر على أي استقلالية تجاه السلطة المركزية. إذ أن الإدارة تصرف الفاعلين الاجتماعيين عن أهدافهم الرئيسية، كما يسخر المجتمع المدني كوسيلة لبسط نفوذ الإدارة، وأيديولوجيتها مع إعطاء انطباع بخلق تعددية اجتماعية. كل هذا العمل لضمان الهيمنة والسيادة على الحركية الاجتماعية في مجتمع قيد التحول السريع. من يؤدي دور ووظيفة الوساطة على كافة المستويات للحياة الجمعوية؟ هم نواب الفقراء، نخبة النخب السياسية، الإدارية والعسكرية. يتألقون في الديماغوجية، ويجعلون من أخلاق التضامن كيمياء للاستعطاف. مراقبة واستحواذ ولمراقبة كل دواليب الجهاز، يعاد إنتاج النظام بناء على التقاليد والموروث العائلي، على النسب الأبوي أو الأبيسي، على زواج المصلحة، وعلى التحالفات الاقتصادية. إذ باستحواذهم على ميدان الحريات العمومية وبفضل الأعمال الخيرية، يصبحون الأطراف المميزة للحوار مع الدولة، ومع منظمات دولية. إن ممثلي المجتمع المدني بالمغرب ليسوا رجالا ونساء التقوا والتفوا حول مشروع مشترك يشرفون عليه وينجزونه بأنفسهم، بمنأى عن أي تدخل أو ضغط، بل هم سلالات عائلية من البورجوازية وسياسية تراقب، بفضل الجمعيات، مجموع الأنشطة الاجتماعية. في هذا الإطار فإن كل القضايا مقدسة: من الدفاع عن حقوق الإنسان إلى حقوق المرأة، مرورا بحقوق الطفل، وحماية الطبيعة، وتأهيل المدن، والأورثوذوكسية الإسلامية، والتاريخ، والحضارة. وتبدو في هذه الأثناء جميع الخطابات على علاقة وثيقة بالحداثة، بالتغيير الاجتماعي، والديمقراطية المساهمة. ويتقوى التضامن بين الأثرياء في كل المجالات. يستحوذون على الجمعيات، على الأندية، أو على المؤسسات التي لها صبغة اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، وإنسانية. تحت غطائهم الحداثي السطحي يقدمون أنفسهم بأنهم حماة البيئة، المصلحة التاريخية والوطنية. لكن على أرضية الميدان، لا يتواصلون مع الجسم الاجتماعي إلا من خلال وبواسطة علاقات السلطة، التي تلغي رسميا كل الشرائح السفلية، بل حتى الشرائح المتوسطة. ويورد الباحث في هذا المجال بعض الأمثلة: تقوم «فلسفة» «التورنينغ كلوب» Tourning Club على الرغبة في تكوين وتربية الجمهور، بمعنى أنه يسعى إلى أخذ مكان الدولة. ويتشكل أعضاؤه من وزراء يتقلدون مناصب في الحكومة أو وزراء قدامى، رأسماليين وتكنوقراط. «الليونز كلوب الدولي» الذي يشيع أيديولوجية الرخاء الأخلاقي للمجموعة الدولية البشرية هو مجمع من البورجوازيات الليبرالية، الاقتصادية والسياسية. أما Inner Wheel، وهي جمعية إنجليزية تنادي بالوفاء والإخاء بين شعوب العالم، فإنها تجند الزوجات، الأمهات، الأخوات والأرامل المنحدرات من العائلات النافذة. أما «روطاري كلوب» فيشجع، بحجة تربيته للشعب، على الرشوة لما يتعلق الأمر بالبحث عن وظيفة. أما جمعية الخصوبة والإجهاض فيديرها أساتذة في كلية الطب، من أبناء كبار الصناعيين. فيما يترأس جمعية النظافة الحضرية وزير سابق في الصحة، وهو بروفيسور في الطب وعضو عائلة تمتلك مصالح اقتصادية هائلة في صناعة النسيج. أما الدفاع عن المرأة أو النسوية فهي كذلك قضية أرستقراطية. إذ تتدخل نساء بورجوازيات لحساب الأب أو الزوج، الذي يحتل مواقع استراتيجية، لاستغلال بؤس الشعب الذي يعاني من التمزق، وبالمقابل ينشئن جمعيات أو منظمات للدفاع عن أطفال الشوارع، عن المراهقات المطلقات، وعن المعاقين، والخادمات... أما دائرة الفرنسيات المتزوجات من أثرياء مغاربة مثل Maroc- Amitiés فتقترح تقديم المساعدة للنساء المعوزات بالبلد. إحدى منشطات هذه الجمعية هي مونيك بناني، نائبة رئيس «إنير ويي»، التي يشغل زوجها منصب مدير عام أحد الأبناك الكبرى. كما أنه نائب رئيس غرفة التجارة الدولية. لكن العمل الذي يقمن به، لا يعدو كونه نزع فتيل الغضب في الأوساط الشعبية مع «بيع» نضالهن للصحافة الوطنية وللإعلام الغربي أو للمؤسسات الدولية. على أي حال تبقى النساء المنتميات إلى الشرائح العليا هن من ينشطن العمل الجمعوي والمدني. لكن الجمعيات التي تمثلها هذه النساء تبقى غير قادرة على تقديم حلول ناجعة وعملية للحيف الذي تعاني من تبعاته الأرامل من المراهقات، أطفال الشوارع، المتسكعات في الشوارع، والعاهرات... هذه النساء الحاملات شهادات جامعية واللائي يحف بهن الخدم، ويعشن في عزلة تامة، ينصبن أنفسهن بين عشية وضحاها ناطقات رسميات باسم حقوق النساء، لا لشيء إلا لتغطية بؤس الخدم الذي يمارسنه على هذه الطبقات. الديمقراطية المعلقة على مستوى المطالبة الديمقراطية، وهي ديمقراطية معلقة ومؤجلة باستمرار، فإنه في غياب النخبة، التي لم تعد قادرة على أخذ الكلمة، ولا على التدخل في الميدان، لمواكبة التغيرات، يستغل النظام هذا الوضع لتعميق ظاهرة التشرذم وتكريس الولاءات. لا وجود للديمقراطية إلا إذا تم التكامل بين تعددية المصالح والأفكار، إلا إذا تم الحد من السلط، وتمت إعادة توجيه الإمكانيات والثروات نحو تلبية رغبات وحاجيات الطبقات المحرومة. ما نعيشه اليوم هو عدم اكتمال الوعي الديمقراطي، الذي يكون من نتائجه تبخر وهم الحداثة. كما تم اكتشاف عدم النضج السياسي، مما يفسر فقر النقاش السياسي. إن الممارسة الديمقراطية على ارتباط قوي ووثيق بالثقافة الديمقراطية. لذا يبقى رهان الديمقراطية رهانا مفتوحا، لكنه من الصعب اليوم أن تتوقف عجلة التغيير. يوم تتعلم النخبة الانصياع والامتثال لقوانين غير قوانينها الاعتباطية، ويوم تعبر عن استعدادها لتوزيع الخيرات وتقاسمها، آنذاك سيكون المغرب قد أرسى عجلاته على سكة الديمقراطية الحقيقية.
الأثرياء هم المسيرون داخل جمعيات المجتمع المدني نسبة الأثرياء ضمن 44 جمعية مدنية هي 43 بالمائة من المجموع العام. وهم أصحاب شركات خاصة أو مسيرون أو رؤساء مدراء عامون لشركات تكنوقراطية كبرى، عمومية أو متعددة الجنسيات. في المرتبة الثانية يأتي أعضاء البورجوازية الليبرالية بنسبة 40 بالمائة، فيما الربع تمثله زوجة، بنت أو كنة الرئيس المدير العام أو الوزير، اللواتي يسيرن مؤسسات الرعاية الاجتماعية. أما فيما يخص أعضاء الإدارة السامية، بمن فيهم رؤساء الأحزاب السياسية، فإنهم يتناوبون على مناصب بارزة ونافذة مع ميل إلى الحصول على منصب رئيس، كما يحولون المجتمع المدني إلى مجموعة من الحلقات الخاصة بالمقاولين والسياسيين الذين يبحثون عن السلطة، عن النفوذ والجاه، لكنهم يقعون في مخالب مسلسل بيروقراطي يفرض عليهم فرضا. وهكذا، فإن خمس جمعيات تعنى بحماية الطفولة تقع تحت نفوذ باطرونا المنسوجات، التي تعيش بفضل مساعدات الدولة (الإعفاء من الضرائب، قروض امتياز، مساعدة مالية من طرف الحكومة). كما أن باطرونا التسيير، التي تقوم بدورها على مساعدات الدولة، تهتم بالمجموعات الدولية. في القمة يوجد المجلس الأعلى والمجالس الإقليمية للعمل الاجتماعي، وفي الأسفل توجد هيئات المساعدة الطبية، الخيريات، دور الحضانة، مراكز التربية الشعبية، دون أن ننسى الجمعيات والفيدراليات الوطنية الرياضية و«حكومتها» والمجلس الأعلى للرياضة. إذ أن مسيريها، وكيفما كانت الظروف، هم رؤساء أحزاب يوجدون في السلطة، وزراء أو وزراء سابقون، برلمانيون، رجالات أعمال، تكنوقراط سياسيين. أما أوليغارشيو البوادي فيشكلون بدورهم مكونا أساسيا من مكونات الحركة الرياضية. لماذا هذه الهجمة الأرستقراطية؟ يتساءل علي بنحدو. لأن الرياضة تهم المال، الأعمال، السياسة والسلطة، ثم لأن الرياضة تساعد على الحصول على رضى واستحسان الجماهير. كما أنها تحفز الشعور الوطني. وفي أزمنة الأزمة تساهم في تهدئة نزعات الرفض والسخط تجاه الحاكمين. الرياضة نعمة على النخبة وعلى صورتها المتدنية في أوساط الرأي العام.