إذا كانت الأحزاب السياسية تؤدي، في ظل الأنظمة الديمقراطية، دورا أساسيا وبالغ الأهمية في تمثيل الشعب وتأطيره، وبالتالي في تحقيق أهداف وطموحات سياسية وفكرية، تعبر عن طبقة أو مجموعة طبقات معينة تجمعها محددات وقواسم مشتركة تشكل البرنامج السياسي، الذي يعبر عن مشروعها المجتمعي، فإن واقع الأحزاب السياسية في بلادنا أصبح، مع توالي السنوات، يثير العديد من التساؤلات، إذ كيف يمكن لنا أن نتحدث عن أحزاب سياسية تفتقر إلى إيديولوجيات واضحة؟ وهل تنطبق شروط قيام الحزب، فعلا، على أحزابنا؟... اليوم، ونحن بصدد نقاش وطني حول تعديل دستوري مرتقَب سيمسّ، لا محالة، الفصول التي تؤطر دورها، لا بد من الإشارة في هذا الخصوص، إلى أن بعض الأحزاب السياسية، وقبل خطاب الملك محمد السادس ليوم تاسع مارس 2011، والذي أعلن فيه عزم المغرب على إجراء تعديل دستوري شمولي، كانت هده الأخيرة تطالب بتعديل مسودّة قانون الأحزاب، وهو، بالتالي، إقرار نوعي للدستور الحالي. إن الانتقال من الاعتراف للأحزاب السياسية بالمساهمة في تأطير المواطنين إلى التأطير الفعلي لا يعني، بالضرورة، عدم تكرار سيناريوهات الماضي، إذ إن هذه الأحزاب، إذا لم تجدد نخبها وإذا لم تقطع علاقتها بذوي النفوذ والمال وإذا لم تتقدم إلى الانتخابات ببرامج واضحة وبمرشحين أكفاء وذوي مؤهلات وكفاءات عالية تجمعهم بالحزب السياسي علاقة مبنية على تحقيق أهداف برنامج الحزب السياسي، فالأكيد أن هذه السلبيات ستتكرر في المستقبل. هناك مطالب عديدة، اليوم، بضرورة القطع مع الممارسات التي عرفها الماضي وتمكينها من الوسائل الضرورية للقيام بمهام التمثيل، غير أن ذلك يقتضي ربطه بالمساءلة والمراقبة والتتبع، حتى لا تتحول هذه الأخيرة إلى تنظيمات فئوية وإقصائية. وكيفما كان الحال، فإن الورش الدستوري الكبير، الذي نحن بصدده، والذي حدد معالمَه الملك في خطابه، بمناسبة تعيين اللجنة الاستشارية المكلفة بوضع ومراجعة الدستور، سيكرس حضورا لا بأس به للأحزاب السياسية في تدبير وتسيير الشأن العام. وقد كان الخطاب الملكي واضحا وهو يشدد على أن الوزير الأول سيتم تعيينه من الحزب الفائز في الانتخابات الخاصة بمجلس النواب، مما يفيد أن سلطات الوزير الأول ستتقوى وسيكون، بالتالي، رئيسا لسلطة تنفيذية فعلية مسؤولة أمام البرلمان والمعارضة، التي يجب أن تكون قوية بإمكانها ممارسة مراقبة حقيقية وليست صورية، وأعتقد أن تقوية صلاحيات المعارضة في هذا الإطار تقتضي إعادة النظر في الفصول التي تؤطر تدخلها في إطار المسطرة التشريعية، حيث إن الوزير الأول، في ظل الدستور الحالي، بإمكانه أن يربط لدى مجلس النواب مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها بتصويت يمنح الثقة بشأن تصريح يفضي به الوزير الأول في موضوع السياسة العامة أو بشأن نص يطلب الموافقة عليه. غير أن الشرط التعجيزي، المتمثل في الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب، يقف حائلا دون تفعيل هده المسطرة. وبالتالي، فإنه يجب إعادة النظر في مقتضيات هذا الفصل، بالشكل الذي يسمح بإجراء مراقبة برلمانية حقيقية على العمل الحكومي، على أن يتم تخفيض هذا النِّصاب إلى الثلث، مع عقلنة اللجوء إلى هذه المسطرة، كي لا تتحول إلى أداة للعرقلة الدائمة للحكومة ولا نعود، بالتالي، إلى ما عرفته الجمهورية الرابعة، التي كان فيها البرلمان جهازا لإثارة الأزمات السياسية. كما أن تكريسه يجب أن يكون في الاتجاه الذي يسمح بإجراء مراقبة فعلية على العمل الحكومي. كما أن الأحزاب السياسية أصبحت، اليوم، مدعوة إلى أن تكون قوة اقتراحية وأن تقترب أكتر فأكثر من مطالب الشعب، لأن هذا القرب هو الذي سيسمح بإرجاع الثقة المفقودة في تنظيماتها وسيؤدي، بالتالي، إلى تقوية حضورها على المستوى الترابي. إن الدستور المقبل سيخصص وضعا متميزا للأحزاب السياسية ولمنظمات المجتمع المدني كمنظمات سياسية مهمتها تنظيم وتأطير المواطنين، وتبعا لذلك، يتعين عليها أن تُخلّص نفسها من كل مظاهر التبعية للسلطة، لأن هذه التبعية أفقدت ثقة الشعب فيها. ولعل الحراك الاجتماعي الحالي ناتج عن ضعف التأطير، إذ كيف تدعو الأحزاب السياسية الشباب إلى الانخراط في تنظيماتها، وهي ما تزال تكرّس الإقصاء؟ وكيف لها أن تدعو الشعب إلى التصويت في الانتخابات، وهي تتقدم إلى الانتخابات بمرشحين أكل عليهم الظهر وشرب ولم يعتزلوا السياسة بعدُ، ليس حبا في العمل السياسي وإنما لأن التصور العام هو أن الحزب «قنطرة» ضرورية للوصول إلى البرلمان، الذي هو، في اعتقادهم، «برُّ أمان» من كل متابعة وحصانة وجهاز لخدمة المصالح، تحت غطاء «تمثيل» الشعب... إننا، كشباب، نريد أن نعمل في إطار الأحزاب، لكنْ ما إن تتاح لنا الفرصة لحضور أحد مؤتمراتها، حتى نرى سلوكيات من قبيل ربط تولي المناصب القيادية داخل الأحزاب السياسية بالولاء لزعيم الحزب وحاشيته. تغنينا هذه الممارسات وتجعلنا لا نندم عن عدم تلبية دعواتها إلى الانخراط في تنظيماتها، لكن الأكيد هو أن الإطار القانوني الذي كانت تتذرع به سيمكنها من القيام بمهامها، غير أنني أعتقد أن الأحزاب السياسية غير مؤهلة إلى أن تواكب خطاب المرحلة في الوقت الراهن، باستثناء فئة قريبة منها، لأنه، وطيلة العشر سنوات الأخيرة، كل الأوراش التي عرفها المغرب، سواء تعلق الأمر بهيأة الإنصاف والمصالحة أو بإصلاح القضاء وكذا الجهوية المتقدمة كلها، كانت بمبادرة من الملك، ونرجو، في المستقبل، خيرا، لأننا عندما ننتقد حضور الأحزاب السياسية في المشهد السياسي المغربي، فإننا لا ننتقد من أجل الانتقاد، وإنما من منطلق الغيرة على تفادي مجموعة الممارسات التي يعترف الجميع، وحتى الأحزاب نفسها، بأنها سلبية، لكنها غير مستعدة -على ما يبدو- لأن تصححها، لأنه، وللأسف، كل من له خطاب مجدد في إطارها يعتبر في نظر قياداتها ضربا في الخط السياسي، وبالتالي، فإن مصيره هو تعبئة شاملة من طرف القيادات المقررة في إطارها، مما يؤدي -بالنتيجة- إلى تأسيس أحزاب أخرى، ونصبح، بالتالي، أمام وضع تشتيت العمل الحزبي، حيث تجاوز عدد هذه الأحزاب، اليوم، عتبة الثلاثين حزبا. إننا لا نقارن أنفسنا بالديمقراطيات البرلمانية العريقة، كبريطانيا أو فرنسا، التي تكرس فيهما الخط السياسي للحزب بين يمين فعلي ووسط ويسار، كل له القدرة على القيام بتحالفات قبل إجراء الانتخابات وبعدها، وإنما نطالب بالحد الأدنى من الديمقراطية، إذ كيف يعقل أن تطالب الأحزاب السياسية بالديمقراطية وهي لا تكرس الديمقراطية داخل تنظيماتها الحزبية. ولعل ما يندى له الجبين هو فترة الحملات الانتخابية التي تعرف سيلا من السلوكيات المؤسفة، من قبيل استغلال الوضع الاقتصادي لأفراد الشعب وشراء ذممهم أو ولائم وإطعام يستمر أسبوعين وينتهي ليعود، خمس سنوات بعد ذلك.. هذه أمور وغيرها أصبحت في دائرة الممارسات التي لن يقبلها الشعب، لأن القارئ المتمعن في الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 يتأكد له بالملموس أن المغرب مقبل على مرحلة تاريخية سيتم في إطارها التكريس الدستوري للحكامة المالية وربط تولي المناصب والمسؤولية بالمحاسبة والمساءلة، ويتعين على الأحزاب السياسية أن تكرس هذا المقتضى في إطار قوانينها الأساسية.