يذهب محمد الأعرج إلى أن الإدارة خولت لنفسها الحق في إجراء بعض التعديلات على المركز القانوني للموظف دون رضاه أو موافقته، وليس له الاحتجاج بأن له حقا مكتسبا، شرط أن تكون هذه الإجراءات والتعديلات عامة وتسري على جميع الموظفين في نفس المركز القانوني. ولعل ما يؤكد هذا الطرح، وفي تغييب تام للنقابات برمتها، صدور المرسوم رقم 2.06.377 (29 أكتوبر 2010) بشأن النظام الأساسي الخاص بهيأة المتصرفين المشتركين بين الوزارات. في واقع الحال، لا يمس هذا النظام هيأة المتصرفين فقط، وإنما يتعداها إلى 22 هيأة أخرى، والأخطر من ذلك أنه صدر بمقتضيات ستتم مناقشتها لاحقا داخل البرلمان، بغرفتيه، من خلال التعديل الذي لم يصدر بعد لظهير 1958، المتعلق بالوظيفة العمومية. لم يتطرق هذا المرسوم، لا من بعيد ولا من قريب، للدكاترة، وإنْ تحدث عن الإجازة والماستر، رغم أن الحكومات أقحمت الدكاترة، بشكل تعسفي، في الإطارات التي جاء بها المرسوم سالف الذكر. إن هذا الخطاب هو الذي أدى إلى تعقيد وتشابك العلاقات داخل الإدارة، حيث أنتج اختلالا وظيفيا (الزبونية والعلاقات العائلية والحزبية والنقابية) على مستوى التوظيف والترقية وإسناد المسؤولية، وهو ما نتج عنه تكريس الجمود، من خلال إعادة إنتاج ما هو موجود للمحافظة على الوضع القائم، للاستفادة منه، وتفشي ظاهرة الرشوة وبروز موقف محافظ لدى فئات الموظفين، والذي تغذيه الممارسات الانقسامية داخل الإدارة وعدم الرغبة في اقتسام المنافع من قِبَل الفئات المسيطرة، الأمر الذي يكرس نوعا من التحالف على الوضع القائم، ونجد القواعد القانونية والمساطر في ظل هذا الوضع غير المنتظم تنسج ميكانيزمات الإعاقة. وقد تكرس هذا الوضع من خلال ما يتوصل به -وبشكل دائم- الموظفون «المحظوظون» والعاملون في دواوين الوزراء والكتاب العامون للوزارات وكذلك الذين يقومون بالتدبير المالي والمسئولون الكبار من تعويضات خيالية من ميزانيات الاستثمار، وهو الأمر الذي يُعطّل، باستمرار، المشاريع التي يجب القيام بها. فطابع الاختلالات والاعتباطية هو السمة الغالبة داخل الإدارات العمومية، سواء كانت الوظيفة العمومية أو الجماعات المحلية أو المؤسسات العمومية، بغض النظر عن التسميات التي تعطى لها كوكالات أو مؤسسات أو شركات أو صناديق سوداء. الأكثر من ذلك أن الوكالات أو المؤسسات أو الشركات العمومية شكلت مرتعا خصبا، نظرا إلى مرونة صرف الاعتمادات المالية وغياب المراقبة المالية والإدارية، لاعتبارات بنيوية، لأبناء الطبقات المسيطرة والمحظوظة، والتي أضحت تمارس من خلال هذه المؤسسات سلطات تتعدى، في كثير من الأحيان، السلطات الحكومية والتشريعية، توجه بها السياسة العامة للبلاد. فإشكالية الوضع الذي يعيشه الدكاترة وكذا طريقة تشغيلهم في الإدارات العمومية تعبير عن انحباس في القول وفاصل بين التفكير والفعل وضعته في حالة وجودية ممزقة، أدت إلى حالات التشوه (كتابة المرسلات -الانطواء -الانعزالية....) جعلته يتصارع بين الماضي والحاضر، بين قوى التجديد وقوى المحافظة، وبين نضال من أجل الانتماء إلى مجتمع الحداثة، فبرزت في الأفق ظواهر التوتر والمقاومة والتراجع والصراع أمام حس المبادرة. فالدكتور العامل في الإدارات العمومية حامل لمشعل الحداثة والتغيير المعقلن، أضحى يشكل خطورة على المرتشين والنفعيين، مما جعلهم يتكتلون بشكل ملفت للنظر لمحاربته، بكل أنواع الخبث والمكر. وفي اعتقادنا، فإن سياسة تشغيل الدكاترة وطريقة التعاطي معها في البنيات الإدارية ما هي إلا لعبة مستمرة من قِبَل الوحدات السياسية داخل جو يطبعه التوتر والأزمة، وهما العاملان اللذان يساهمان في حفظ توازن هش وامتيازات بعض الفئات. وما يزكي هذا الطرح هو قوة التمسك بقانون وقاعدة قانونية آمرة، بشكل تعسفي ودكتاتوري، مستمدة وجودها من سلطة القرار المنفرد. وقد جاء هذا الوضع نتيجة تخلي البنيات النقابية وكذا المؤسسات المنتخَبة عن الأدوار التي من المفترَض القيام بها وانصهارها داخل الهرم التقليدي البيروقراطي، للتقرب من سلطة المخزن، داخل منظومة «الشيخ والمريد»، حسب تعبير الأنثروبولوجي عبد الله حمودي في كتابه «الشيخ والمريد»، فالتوظيفات ليست، في نظرهم، تعويضات عن خدمات، بل هي شراء للذمم ورمز للطاعة والخضوع. وفي إطار هذا الوضع، يبقى دور الموظف وشغله الشاغل هو البحث الدائم عن إطارات للحماية (شبكات –أحزاب -علاقات-نقابات...) مما أدى إلى إفراز كتل و»لوبيات» للتقرب من مصادر السلطة، وهو ما حول الإدارة العمومية إلى «إقطاعيات إدارية»، وما جعل الدكتور على الهامش وتائها في فضاء الإدارة وغيرَ قادر على تخطي هذه المعيقات التي تفرضها الأجهزة البيروقراطية. إن إيجاد نظام جيد للتعامل مع فئة الدكاترة يجب أن ينبني على سياسة واضحة ومحددة في مختلف المجالات (التوظيف -المهام -الأجر -التقييم -الترقية). فإذا كان المنظور التقليدي يضع الموظف في وضعية تبعية تجاه الدولة، فإن الثقافة التشاركية تقتضي إشراك الدكتور في رسم وإعداد الإصلاحات وتنفيذها، مما يتطلب إعادة النظر في نظام الوظيفة العمومية والتفكير الجديد يجب أن ينصبّ على الموظف نفسه، بصفته محور الإنتاج والتغيير. ومن هنا، يجب على منظومة تدبير سياسة الموارد البشرية، المتسمة بالاختلالات أصلا، أن تُفعّل الرصيد البشري، الذي ظل منفعلا أكثر منه فاعلا، في أفق إعادة توظيفها وتأهيلها وتثمينها وتعبئتها، بتثبيت موقعها كقوة مؤثرة في حركية الإصلاح. ونظرا إلى حجم هذه الاختلالات وامتداداتها وعمق مسبباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، فإنه يجعل مقاربتها خارج تبنّي سياسة التتبع والتسيير والتنظيم المتبعة حاليا إلى سياسة التدبير وفق الضوابط العلمية المتعارَف عليها دوليا في هذا المجال. وباعتبار الدكتوراه قيمة علمية ومعرفية وأخلاقية، يجب أن تشكل محور اهتمام كل الفاعلين، وعلى أعلى المستويات، وتُعطاها المكانة اللائقة بها، لضرورة تخليق الحياة العامة، بعدما أضحت الإدارة وكرا للفساد والمفسدين ومصدر إزعاج شعبي وعائقاً من عوائق التنمية والتنمية المستدامة. وقد أشرنا إلى ضرورة إعادة النظر في النظام الأساسي العام للوظيفية العمومية والنصوص التنظيمية المنظمة له، مراعين في ذلك مبادئ العدالة والإنصاف والمساواة الفعلية، لأن هذا النظام أصبح معرقلا، نتيجة لما أنتجه من تفاوتات وفوارق ونتيجة مساهمته، إلى حد كبير، في تفاقم اللا مساواة في ما بين الفئات السوسيو مهنية، فضلا على إضعافه للخلق العام وعلاقات التضامن. ممارسات حكومية
إن المقصود هنا بإعادة النظر في النظام الأساسي للوظيفة العمومية ليست تلك التعديلات العرجاء التي تمت المصادقة عليها من طرف البرلمان، بغرفتيه، والتي يراد بها مصادرة حقوق مكتسَبة لحاملي الشهادات العليا، وهو ما يعتبر قرارا سياسيا يهدف إلى الحد من احتجاجات حاملي الشهادات العليا في الرباط وليس إجراء وقائيا ديمقراطيا تُتوخى منه المساواة بين المواطنين، كما يتم الترويج له، ما دام هذا المبدأ كان قائما لولوج السلم ال10 فما تحت، ومع ذلك يتم خرقه، علما منا أن الحكومات في المغرب تتجه، سنة بعد سنة، إلى تقليص مناصب الشغل المحدثة، والقطاع الخاص لا يحتاج إلى كل هذه الكوادر وإنما إلى أياد عاملة ذات طابع تقني محض. وفي نفس التعديل، خولت الإدارة لنفسها سلطةً شبهَ مطلقة في اتخاذ قرار تنقيل الموظفين أو إعادة انتشارهم، بعدما كان هذا الإجراء لا يمكن أن يتم إلا بطلب من الموظف أو نتيجة لقرار تأديبي، بعد موافقة اللجنة متساوية الأعضاء وتحت إشراف سلطة القضاء. وتم إقحام ما يعرف بالعقود محددة المدة، وما لها من انعكاسات نفسية على المستخدَمين، والتوجه نحو إرساء دعائم العمل الهش حتى بالنسبة إلى العاملين في الوظيفة العمومية. يتم هذا التعديل في غياب أو تغييب تام للنقابات، حتى تلك التي يتم وصفها بالنقابات الأكثر تمثيلا وخارج المنهجية التشاركية، من خلال الحوار الاجتماعي. هذه النقابات التي حكم عليها، بدل تقوية مركزها بصفتها آلية للتنظيم والتأطير، وحكمت على نفسها نتيجة انصياعها وقبولها للمنهجية المتّبَعة من طرف الحكومة في اتخاذ القرارات من جانب واحد، وحكمت على نفسها بالموت البطيء، من خلال الزج بها وقبولها تقمص شخصية المدافع عن الدفاع عن حصيص الترقية أو الترقية الاستثنائية وما شابه ذلك. وللتدليل على ذلك، فإننا، حسب ما نتتبعه وما نستقيه من أخبار، لم نطالع ولو بيانا من أي نقابة لا بقبول التعديلات ولا برفضها، سواء تلك الواردة بشأن النظام الأساسي للوظيفة العمومية ولا تلك التي صدرت في في الجريدة الرسمية، المتعلقة بالمتصرفين والأطر المماثلة، والذين يشكلون السواد الأعظم في الإدارات، وإنما المقصود فتح نقاش وطني ديمقراطي شامل وعامّ يضم كل مكونات المجتمع، لتحديد ماهية الإدارة التي يرغب فيها المواطنون، والتي من الواجب أن تسهر على خدمتهم والدفع بالبلاد نحو التقدم والازدهار، انطاقا من شعار الحكامة الجيدة الذي لا تتوانى الحكومة في رفعه كل حين وحال ل»الاستهلاك»، دون إعمال ميكانيزماتها وآلياتها. ولعل من مؤشرات التخبط وغياب رأي وإستراتيجية واضحة في التدبير الإداري في المغرب الخطابات المتناقضة التي تصدر عن الحكومة منذ أن كان امحمد الخليفة وزيرا للوظيفة العمومية، والذي أطلق مشروع ما يعرف ب«توحيد الأنظمة الأساسية»، مرورا ببوسعيد، الذي على عهده تم تغيير اسم الوزارة من وزارة الوظيفة العمومية إلى وزارة مكلفة بتحديث القطاعات العامة، الذي جاء بما يعرف بدليل الكفايات ومنظومة الترقية والتنقيط والمغادرة الطوعية التي لم يتم تقييم نتائجها إلى يومنا هذا. بقي هذا الدليل حبيسَ الرفوف، رغم صرف أموال طائلة على ذلك، واليوم نسمع، في عهد سعد العلمي، مكاتب دراسات تنجز دراسات أخرى يتم الترويج لكون نتائجها ستظهر خلال شهر مارس. وفي نفس الوقت، هناك تعديلات جوهرية تُدخلها الحكومة على مهام الموظفين وعلى مسارهم المهني (يمكن فقط العودة إلى الجريدة الرسمية عدد 5898، الصادرة بتاريخ 9 دجنبر 2010 للاطلاع على مجموعة من المراسيم) قبل الانتهاء وتقديم هذه الدراسة ومناقشتها وتقييمها، إنه لَأمر عجيب. انتهى/