منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 حظي الإسلام ولا يزال، كمعتقد وأسلوب حياة وبرنامج سياسي ومشروع مجتمعي، باهتمام المتخصصين الجامعيين، بل أيضا باهتمام الخبراء في الميدان السياسي، العسكري، الاستراتيجي والمعلوماتي والمخابراتي، كما لو كان ثمة منحى عارم إلى الرغبة في التحكم في كنه وأسرار هذه الديانة، التي أصبح ينظر إليها الغرب كمصدر للتهديد، من دون إدراك أسسها، تطوراتها وزخمها! وعلى ضوء هذا الحدث انبثقت الإصدارات على إيقاع متواصل، الجدي منها والخفيف. هكذا تتعايش على رفوف المكتبات الدراسات المناهضة، بل الإسلاموفوبية، مع الأبحاث الجدية. كما انبثق "جيل" من الكتاب نصبوا أنفسهم طواعية، ولأغراض دعائية، "متخصصين في الشأن الإسلامي"، يؤخذ برأيهم وبتخريجاتهم على كبريات القنوات. إن تشكل نزوع من التراكم في "كاتالوغات" الناشرين الغربيين في موضوع الإسلام والإسلامية، فإن المفارقة هي فقر المكتبات الجامعية أو برامج الناشرين العرب والمسلمين من هذه الأبحاث. وثمة عدم تكافؤ بين الدول العربية الإسلامية نفسها. يبقى أن تونس تحظى بتقاليد متينة ومميزة في البحث العلمي بحكم وجود نخبة تمكنت، بناء على مناهج حديثة، من النصوص ومن تاريخ للإسلام، فدراسات هشام جعيط، ومحمد الطالبي، وعبد المجيد الشرفي، وعياد بن عاشور وغيرهم...تعتبر بامتياز مرجعية حاسمة في مجال الإسلامولوجيا أو الدراسات الإسلامية. كما أن مبعث الأمل هي الروافد التي يمثلها الجيل الجديد من الباحثين، الذين تكونوا في الجامعات الغربية ذات الشهرة العالمية في مجال الفلسفة أو العلوم الإنسانية. ويقوم بعضهم بدور الوعي اليقظ حيال التبسيطات، التي تمررها الأطراف التي حولت الإسلام إلى رهان للسجال، بل للصراع المفتوح من حول قضايا الإسلام، تاريخه وموقعه، سواء في البلاد الإسلامية نفسها أو في بلاد المهجر، التي تحولت إلى مختبر فكري، إعلامي وسياسي تتصارع فيه الآراء والأطروحات بشكل مفتوح. وغالبا ما تطفو على السطح سلوكات لاواعية تفضي في الأخير إلى اعتبار الإسلام خطرا، وفي أحسن الحالات ديانة "تزمت" و"تخلف". والصورة التي ساهمت في فبركتها قبل ترويجها وسائل الإعلام تتقاطع مع هذا التصور. لقد أضحى الإسلام أحد المشاغل الحضارية للغرب، ومن الصعب طمس وجوده وحضوره المتزايد. ويعتبر حمادي رديسي واحدا من هؤلاء الباحثين، فهو حقوقي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة تونس، ويعتبر أحد المفكرين النقديين للحداثة في العالم العربي. وقد ركز فكره وأبحاثه على المطابقة بين الإسلام والقيم الديمقراطية مع الدعوة نضاليا إلى تحديث الإسلام. ومن بين المفاهيم التي ابتكرها ونحتها مفهوم "الاستثناء الإسلامي"، وقد سبق له أن ألف كتابا صدر عن منشورات "سوي" بنفس العنوان. تتقاطع خطوط الفكر الفلسفي لحمادي الرديسي من حول التأثيرات الفلسفية الإغريقية القديمة (أفلاطون وأرسطو) والفكر الفلسفي الحديث (جون راويلز، يورغن هابيرماس)، مرورا بفلسفة الأنوار (إمانويل كانط، مونتيسكيو، جان-جاك روسو). يتمحور قسم كبير من فكر الرديسي حول العقلانية في المجتمعات العربية الإسلامية، وهو لما يجند أعلام الفلسفة المسلمين من أمثال الفارابي، ابن سيناء، ابن رشد، لا يجعل منهم مرجعية المرجعيات في مشهدنا الحاضر، بل يضعهم في إطار النسبية العقلانية الكونية، منذ الحقبة الإغريقية إلى اليوم. وقد صدر له هذا الأسبوع مؤلف "تراجيديا الإسلام الحديث"، الذي يعتبر لبنة جديدة تنضاف إلى مشروعه الحداثي الفكري. حداثة مرقعة يرى حمادي الرديسي أن حيرة الإسلام اليوم لا يفسرها فقدانه هويته السكونية بقدر ما يفسرها حفاظه عليها. وإن تشظى اليوم التراث الإسلامي، فإنه لا يزال يحافظ على زخمه بدليل ذاكرة لا تزال موضع نزاع دائم. كما أن حداثته ظاهرة للعيان، حتى إن بدت مرقعة. كسب الإسلام عدة أوجه لأنه لم يتمكن من الحفاظ على وجه محدد. ويذكر الباحث بواقعة عاشها وهو ضيف على صديق ألماني: على إحدى القنوات كان بسام الطيبي، وهو مثقف مشهور في ألمانيا، يحاور فتاة منقبة، محاولا إقناعها بأن الإسلام الحقيقي لم يجعل يوما من النقاب واجبا دينيا. لكن الفتاة كانت تعارضه مفسرة بأن ارتداء النقاب هو ممارسة لإسلامها الشخصي. ويرى حمادي الرديسي أن هذا المشهد أصبح روتينيا ومألوفا، إذ يتحدث الكل عن الإسلام وباسم الإسلام، أي أن لكل إسلامه الخاص والشخصي. وحسب حمادي الرديسي، يوجد الإسلام اليوم في وضع تجزؤ وتشظ مزدوج، فهو موزع بين الحداثة والتراث. وقد كان للحداثة فعل صادم، إذ وفرت له إمكانية التعرف على الأنوار. لكن الإسلام تأثر بأفول أو انهيار تراثه. إنها سيادة التراجيديا. فهذه الأخيرة هي بمثابة المبدأ المؤسس لأي ثقافة. ما هي الطرق التي ينهجها الإسلام ليتطهر تبعا للمبدأ الأرسطي؟ للتخلص من هواجسه؟ لتجنب سخافة التاريخ؟ السؤال الأساسي الذي يطرحه كتاب الرديسي هو التالي: كيف يمكنه أن يكون ابن زمانه بدون السماح في هويته الثقافية؟ أصبح مصير الإسلام إما بصفته حضارة أو نموذجا أنثروبولوجيا، حبكة. يجب أن تكون هذه الحبكة أحد شواغل المسلمين، وإلا لن نفهم المشاغل التي تستأثر أو تستحوذ مثلا على الدياسبورا لما تطرح مسألة العيش في بلاد الغربة، أي خارج بلاد الإسلام. يطلق الرديسي على هذه الظاهرة "المسألة الغربية"، وهي مسألة محايثة للمسلم في بلاد المهجر. كيف يمكن للمسلم أن يكون في بيته وهو متغرب؟ ضرورة التوفيقية لكن الغرب ليس بحداثة أحادية، بل مجموعة من الحداثات، أو هو عبارة عن حداثة موزعة، حتى وإن كانت "الحداثة الكبرى" مشروعا أوروبيا. لذا يجب النظر إلى التراث والحداثة بصيغ الجمع. فالإسلام ثري بالتقاليد، والحداثة برنامج من الحقائق المتعددة. لقد اعترت التراث تغيرات وتأثيرات صعب معه أحيانا الإمساك أو التمكن من قضاياه الكبرى. ومع ذلك، فإن سلطته المرجعية لا تزال سندا يستشهد بها وتتكئ عليه مختلف السلطات، الدينية والسياسية. أسيرا بين التقليد والحداثة، فإن الإسلام هو ما ينتج في الوسط على طرفي الاثنين. ذاك هو الإسلام الحداثي، كلية بارزة، وجه أو صورة Gestalt . يعز ويقدر هذا الشكل من الإسلام سوابقه مثلما يحرض على توظيف العقل. يلتقط، وينقل درر الفكر الغربي. لكن مع ذلك لا يتخلص من الغموض الذي يعتريه، يلاحظ الرديسي، فضمن تعددية الحداثة، أية عناصر يمكن توظيفها ونقلها؟ يزعم الباحث بأن عقدة التراجيديا التي يعرفها الإسلام (من بداية إلى خاتمة المسرحية تبعا لشعرية أرسطو)، هو غياب لسلطة احتكام قادرة على التمييز بين التعدديات، بين التراث المتعدد والحداثة متباينة الأوجه. في عالم يجمع بين مفارقة التعددية الثقافية والانزواء الإثني، لا يمكننا الإفلات من التوفيقية. في النقد المزدوج لم يشذ الإسلام عن قاعدة الرغبة في الحياة، وهو ما أسماه سبينوزا "الشهية إلى كل ما هو نافع". فالإسلام على قناعة بأن الحياة تبعا لتعاليمه هل التي تستحق أن تعاش. المشروع الذي يناضل من أجله الرديسي هو مشروع يقوم على محاولة تأصيل الحداثة في الحياة اليومية، السياسية، الثقافية للمجتمعات الإسلامية. هذه الحداثة التي لا تزال أرضا بور في هذه المجتمعات، والتي تتقاطع إلى حد ما مع فكرة هابيرماس القائلة بأن "الحداثة في الغرب لا تزال مشروعا غير مكتمل". والنقد المزدوج الذي يدعو إليه الباحث يتموقع في الواقع ضمن المفارقة التالية: من جهة هو متضامن مع الحداثة الغربية، ومن جهة أخرى يأسف لكون هذه الحداثة لم تف بكل وعودها. على مستوى آخر، فإن النقد المزدوج لا يتضامن مع حداثة إسلامية، "حسب الطلب"، ولا يقبل من التراث إلا جوانبه المشرقة. ويندد النقد المزدوج أيضا بنفاق الثقافة المهيمنة في المجتمعات الإسلامية، مطالبا بحرية المعتقد والتفكير والتصرف، أي ما يسمى بحرية الفكر، و أن تمنح أخيرا إلى المواطنين، الذين لا يجب الخلط بينهم وبين المؤمنين لأن المواطنة شيء والإيمان شيء آخر. يتوجه الباحث إلى كل الذين يحسون أو يشعرون بأنهم يعملون في معاشهم على ترك المسافة بين شرق الأصول وغرب التبني، إلى الذين يتقنون لغتين أو أكثر، إلى الأوروبيين المسلمين لا المسلمين في أوروبا، إلى المسلمين الحداثيين... إلى جميع هؤلاء يتوجه الباحث بهذا النداء، مشيرا إلى أن النقد المزدوج هو برنامج حقيقتنا في هذه الحقبة من الهجانة ما بعد الكولونيالية. نحن الذين لا يمكننا أن نكون إغريقا حتى إن عاشرنا الإغريق في مرحلة من مراحل تاريخنا. نحن الذين لم تعد تنطلي علينا حيلة فرادة العالم، سواء كان عالمنا أو عالم الآخر. حتى "الإسلاموية"، سواء أحبت أم كرهت، تشارك وتساهم في نفس المشهد الحداثي، اخترقتها وتسربت إليها الحداثة رغما عنها. حتى العالم أكبر السيد أحمد جعل منها "مابعد حداثة" فاقعة تجمع بين المتعة والحنين، العصرنة والتراثية. وقد أشار على سبيل المثال إلى أن سروال الجينز لا يصلح للصلاة ولا إلى القيلولة! على أي نبقى المعاصرين التاريخيين للحداثة حتى إن لم نكن معاصريها الفلسفيين. يطرح النقد المزدوج على صعيد آخر المسألة التالية: أليست الإسلاموية نوعا من النزعة المحافظة الجديدة بما هي كسل فكري يعتمد على عطف الأغلبية. بدون مراوغة يرى المرديسي بأن النزعة المحافظة الجديدة عامة والإسلاموية خاصة تتعارضان مع فكر الحداثة الذي نتشبث به. أن نتعايش اليوم مع النزعة المحافظة الجديدة مسألة سياسية، وهي تهم الجميع الغرب والشرق على حد سواء، تهم "تقاسم العالم مع الآخرين". في أرض الإسلام يوجد النقد المزدوج اليوم بين ظهرانينا، و ليس بغريب عن التربة الإسلامية. اليوم، ثمة أمة احتمالية هي في وضع تراكب وتناضد مع الأمة الحقيقية. على طريقته الخاصة، يخلق الإسلام رابطا بين المحلي والدولي. ويبقى السؤال هو : هل للعولمة حظوظ لتحرير الإسلام من مسألة الغرب؟ يجيب المرديسي بأن الحظوظ منعدمة اللهم إذا ناضل الأفراد ضد أنفسهم وما بدواخلهم. وهذا ما يطلق عليه تعبير "الحياة البطولية". المشروع الحداثي الذي يناضل من أجل إقامته حمادي الرديسي مشروع نظري يتزاوج أيضا مع الممارسة السياسية لإحداث قطائع ثورية عبر بناء ديمقراطي من صنف جديد. استند الرديسي على ثورة الياسمين لطرح مجموعة قضايا تخص مسألة الحداثة، إعادة النظر في الدستور وبنوده. وفيما يخص العلمانية، يرى الرديسي بأنها لم تدخل بعد جوهر النقاش في تونس، ومع ذلك تبقى أحد التساؤلات الاستراتيجية، وستطرح مستقبلا مع الدستور الجديد ووضعية حركة النهضة. هل سيبقى المشرعون الجدد على البند القائل بأن الإسلام هو دين الدولة التونسية؟ الاتجاه السائد هو لصالح إعادة النظر في هذا التوجه مع إبقاء الدين في خانة ما هو خصوصي أو خاص. ينتمي الرديسي إلى مجموعة تدعو ليس فقط إلى حياد للدولة، بل أيضا إلى إنشاء مجلس يضمن احترام هذا الحياد في الحياة الاجتماعية، مجلس له القدرة على معاقبة المخالفين لهذا الحياد أو هذه اللائكية. نحن بصدد ورشة مفتوحة من المحتمل أن يكون فيها للمثقف وللمفكر دور ريادي واستشرافي في التغيير والبناء الديمقراطي.