في الوقت الذي استوعبت فيه العديد من دول العالم، في كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، دروس المرحلة وحجم التحديات التي أصبحت تفرضها التحولات الدولية الراهنة، وانخرطت بحزم وإرادة قويين في قطع خطوات مهمة وثابتة على طريق التنمية الشاملة وتحقيق الديمقراطية الحقيقية، تعيش العديد من الأقطار العربية، بحكم الطوق المفروض على أي إصلاح أو تغيير حقيقيين، شبه ركود تعكسه الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية المستمرة، والتي لا تخلو، في عمقها، من تداعيات دولية خطيرة.. وإذا كانت النخب السياسية قد أسهمت، بشكل ملموس، في الدفع بعدد من المجتمعات نحو تحقيق الديمقراطية والتطور والتنمية، فإن الأوضاع السياسية داخل الأقطار العربية تعكس الحالة المتردية التي تعيشها النخب السياسية في مختلف هذه الأقطار نتيجة لعجزها عن قيادة أي تغيير أو إصلاح. إن الحديث عن النخب السياسية في الأقطار العربية يقودنا إلى ضرورة التمييز بين نخب تحكم وتملك سلطة اتخاذ القرارات الحاسمة، وتستأثر بالمراكز الحيوية داخل الدولة، وتوظف الدين والإعلام وبعض الأحزاب وجزءا من فعاليات المجتمع المدني.. لصالحها، ونخب لا تحظى بقوة أو سلطة فعلية، توجد خارج مراكز اتخاذ القرارات، ولا تملك إلا مواقفها، وفي كثير من الأحيان تكون بدورها تحت رحمة النخب الحاكمة التي تفرض عليها واقعا سياسيا ضيقا من حيث إمكانية الاحتجاج أو المناورة.. مما يحدّ من فرص ترسيخ تصوراتها الإصلاحية داخل المجتمع والدولة، ويجعل من كل الخطوات «الإصلاحية» المتّخذة محدودة الأثر ولا ترقى إلى مستوى حاجات وانتظارات الجماهير. لقد رفعت مختلف النخب السياسية العربية الحاكمة في مرحلة ما بعد الاستعمار شعارات تهم تعزيز الاستقلال، من خلال بناء وتحديث وتطوير المؤسسات السياسية وإدخال بعض الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، كما تمكنت العديد النخب العسكرية العربية من الانتقال إلى الحكم عبر الانقلابات باسم هذه الشعارات، غير أن الممارسة الميدانية أبانت، بشكل واضح، محدودية هذه الجهود في بناء دول قوية وتحقيق تنمية شاملة وإقامة أنظمة ديمقراطية. فبمجرد سيطرتها على مؤسسات الدولة، قامت غالبية النخب الحاكمة بصد أي محاولات إصلاحية ترفعها النخب المعارضة، وفرضت طوقا أمنيا صارما على شعوبها، وأضعفت مؤسسات القضاء وهيئات المجتمع المدني، وعطّلت العمل بالمؤسسات في كثير من الأحيان، وساهمت في الاغتناء غير المشروع على حساب الشعوب، وانتشار الفساد السياسي والاقتصادي وحصّنته ضد أية مساءلة قضائية. ومن منطلق اقتناعها بدور الإعلام و«الثقافة» في تكريس هيمنتها والترويج لأفكارها، حرصت هذه الأنظمة على تجنيد وسائل الاتصال لخدمة أغراضها واستمالة عدد من «المثقفين» إلى صفّها بالتهديد والوعيد تارة والإغراء والكرم تارة أخرى، الأمر الذي أدى إلى نشر ثقافة سياسية منحرفة تكرّس الاستبداد والتعتيم وتأزيم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بمختلف الأقطار العربية، وأثّر بالسلب على أداء النخب السياسية الموازية الأخرى وضيق من هامش تحركها وحال دون قيامها بأدوارها المفترضة. فالكثير من الدول العربية، التي اختارت التعددية، تعرف هيمنة للحزب الحاكم أو تفرض مجموعة من القيود الدستورية والقانونية والسياسية على مختلف الأحزاب المعارضة بما يشوّش على تحركها ويحدّ من فاعليتها في القيام بوظائفها المفترضة على مستوى التأطير والتعبئة والتنشئة والتمثيل.. فيما نجد دولا أخرى حظرت العمل بالأحزاب أو اعتمدت العمل بنظام الحزب الواحد. لقد اعتمدت الكثير من الأنظمة العربية في استراتيجيتها التّسلطية على النخب السياسية الأخرى إلى جانب نظيرتها العسكرية والاقتصادية والدينية.. وتبين تغليب بعض هذه النخب لمصالحها الخاصة، وثبت، في كثير من الأحيان، تورطها في فساد مالي وإداري وسياسي.. مما أسهم، بشكل كبير، في خلق فجوة بين السلطة السياسية الحاكمة، من جهة، وما بين أفراد المجتمع، من جهة أخرى، وفرض استمرار الأوضاع السياسية على حالها، وأفقد هذه النخب ثقة الجماهير، وولّد شعورا بالإحباط في أوساط الشعوب العربية، فيما فضّلت نخب مثقفة ودينية وسياسية أخرى الانكفاء على نفسها والانزواء بعيدا. نجحت النخب السياسية الحاكمة في مختلف الأقطار العربية، إلى حد كبير، في تدجين العديد من النخب (المثقفة، الاقتصادية، الدينية، العسكرية، الحزبية، الحكومية،..) تارة بالتهديد والوعيد، وتارة أخرى بالإغراء والترغيب، كما ضيّقت من الهامش الدستوري والسياسي لتحركها. فالنخب المثقفة، التي أسهمت على امتداد التاريخ، في إثراء الفكر والإبداع الإنسانيين، عانت في عدد من الأقطار العربية ويلات الظلم والتهميش. وعلاوة على الوضعية الصورية التي تميز عمل المؤسسات السياسية.. نجحت الكثير من الأنظمة العربية، إلى حد كبيير، في نقل مظاهر الاستبداد والانغلاق والجمود إلى عدد من الأحزاب السياسية ونخبها، وإلى مختلف الفعاليات المحسوبة على المجتمع المدني.. مما أفقدها ثقة الجماهير. وهكذا برزت نخب تبنت تصورات الأنظمة وطروحاتها ودافعت عنها، فيما كانت هناك نخب أخرى معارضة لاقت مظاهر مختلفة من التضييق وعانت ويلات التعسف والاعتقال.. وأمام هذه المعطيات الموضوعية والذاتية التي تؤكد حجم الإكراهات التي تعوق عمل مختلف النخب والقنوات السياسية، أضحت مهمة هذه الأخيرة في الإصلاح والتغيير أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا، وهو ما سمح لمختلف الأنظمة العربية بالتمادي في تسلطها واستهتارها بإرادة الشعوب. ولأن الطبيعة لا تحتمل الفراغ، وبفعل هذه العوامل مجتمعة، خرج الشباب إلى الشارع في عدد من الأقطار العربية في إطار ثورات واحتجاجات عارمة، رغم تحفّظ وتمنّع عدد من الأحزاب والهيئات.. بصورة تعكس حجم الهوة القائمة بين مختلف هذه النخب ومجتمعاتها، وتبرز تفكك وضعف القنوات الوسيطة (أحزاب ونقابات..) المرتبطة بتعبئة وتمثيل وتنشئة وتأطير المواطنين وضيق هامش تأثيرها سياسيا ودستوريا، وتبيّن مدى التهميش الذي عانت منه فئة الشباب هذه على شتى المستويات والميادين، وتعبر أيضا عن الرغبة في تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية. فهذه الفئة التي لم تجد نفسها، بشكل أو بآخر، داخل مختلف القنوات التي يتاح لها العمل في إطار قواعد اللعبة المتاحة التي تسمح بها الأنظمة، ولم يحسب لها أي حساب ضمن معادلة العمل السياسي أو السياسات العامة لعدد من الدول، توجهت نحو البحث عن قنوات ومتنفسات بديلة من أجل التواصل في ما بينها والتعبير عن تطلعاتها بصورة تلقائية وسلمية وحضارية، من خلال قنوات الاتصال الحديثة التي تتركز في شبكة الأنترنيت («فايسبوك» وبريد إلكتروني و«يوتوب» و«تويتر»..) والهواتف النقالة التي تتيح إمكانيات مذهلة في التواصل والضغط، قبل أن تنقل مطالبها من العالم الافتراضي إلى الواقع في شكل احتجاجات ميدانية عارمة، لم يتردد في الالتحاق بها مختلف أفراد المجتمع وأحزاب سياسية وفعاليات مدنية ونخب مختلفة -بعدما ظل صوتها غائبا بفعل عوامل ذاتية وموضوعية- لاقتناعها بعدالة ومشروعية مطالبها التي جاءت بعيدة عن أية حسابات حزبية أو مصالح إيديولوجية ضيّقة. لقد بادرت الجماهير في مختلف الأقطار العربية إلى طرح مطالبها بصورة علنية وواضحة على صناع القرار، وإن اختلفت أشكالها وحدتها من منطقة إلى أخرى. وقد تراوحت هذه المطالب بين أولويات اجتماعية واقتصادية وسياسية ودستورية.. وإذا كان سقف المطالب قد ارتفع بصورة متسارعة نتيجة لحجم الحيف والاستبداد والفساد الذي عانت منه بعض المجتمعات مثلما هو الشأن بالنسبة إلى تونس ومصر.. وجعل فرص تدارك الأمر بعيدة المنال، وأدى إلى إسقاط الأنظمة القائمة.. بعدما اختارت هذه الأخيرة صمّ الآذان في مواجهة مطالب شعوبها لعقود خلت، وبعدما اختارت أيضا منطق العنف والترهيب لإخماد المظاهرات والاحتجاجات، واللعب على عامل الوقت.. فإن الكثير من الأنظمة العربية تواجه تحديات كبرى وتجد نفسها أمام مآزق حقيقية، في ظل الإكراهات السياسية والاجتماعية المطروحة، تفرض عليها اعتماد مبادرات حقيقية تزرع الثقة في أوساط الجماهير، خاصة وأن هذه الأخيرة تخلصت من عقدة الخوف والإذعان، في محيط إقليمي يغلي بالاحتجاجات والثورات الشعبية التي تواكبها وسائل الإعلام المختلفة، لحظة بلحظة. وتزداد هذه المآزق خطورة مع ظهور بوادر تشير إلى اقتناع الكثير من القوى الغربية الكبرى بأن تكلفة التواطؤ مع الاستبداد ضخمة وخطيرة جدا على مصالحها السياسية والاقتصادية، وبأن دعم الديمقراطية هو المدخل الناجع لترسيخ الاستقرار والشفافية في المعاملات والعلاقات السياسية والاقتصادية، محليا ودوليا، بعدما ظلت تجامل الاستبداد في المنطقة العربية لعقود عديدة، حفاظا على مصالحها، واعتقادا منها بدور هذه الأنظمة في مواجهة التطرف والهجرة السرية و«الإرهاب».. واقتناعا منها بأن تشجيع الديمقراطية سيسمح للإسلاميين باكتساح المشهد السياسي بهذه الأقطار. كان المستشار الألماني «بسمارك» يردّد قولته المشهورة: «الحمقى هم الذين يستفيدون من تجاربهم، أما أنا فأستفيد من تجارب غيري». إن ما وقع في تونس وفي مصر، وما يقع في ليبيا من أشكال احتجاجية عارمة، هو رسالة موجهة إلى كل الأنظمة التي لم تركب بعد قطار التغيير والإصلاح الجادّين والحقيقيين، لكي تبادر إلى إعمال مبادرات اقتصادية واجتماعية وسياسية ودستورية مشروعة تستجيب لتطلعات الجماهير، وفرصة للقيام بتدابير تدعم دولة المؤسسات وتكافؤ الفرص، سياسيا واقتصاديا، وتفتح المجال لمشاركة بناءة وفاعلة في إطار من التعددية وبأطراف فاعلة تشتغل في جو من الشفافية والمحاسبة. وبالتأكيد، فإن الدور سيكون على الجهات التي لم تلتقط بعد رسالة الشعوب التوّاقة إلى الإصلاح والتغيير.. خاصة وأن الفهم المتأخر لا يجدي.