لا أحد يعرف بالضبط ما يجري في ليبيا، فباستثناء ما يبثه التلفزيون الليبي من أنباء عن مظاهرات مؤيدة للعقيد معمر القذافي في العاصمة طرابلس يشارك فيها الآلاف من مؤيديه، تبدو الصورة غامضة تماما. فالسلطات حجبت شبكة الأنترنيت و«الفيس بوك»، والبلاد ليس فيها مراسلون أجانب، ومن يراسلون وكالات الأنباء العالمية هم، في الغالب، من صلب النظام، وإن يكن بعضهم ليسوا كذلك فهم يخشون بطشه. وهذا لا يعني أن الوضع كان أفضل قبل اندلاع الانتفاضة الليبية الحالية في أجزاء عديدة من مدن البلاد، فليبيا كانت أشبه بجمهورية أنور خوجة في ألبانيا قبل انهيار منظومة الدول الاشتراكية في أوربا، مع فارق أساسي وهو أن الزعيم الليبي يجلس على ثروة مالية ضخمة تزيد على 200 مليار دولار من الفوائض المالية النفطية، علاوة على خمسين مليار دولار تدخل الخزينة الليبية سنويا. الانتفاضة الحالية في ليبيا ليست عائدة إلى عوامل اقتصادية وإنما إلى عوامل سياسية بحتة، فالشباب الليبي، الذي يشكل حوالي 52 في المائة من مجموع السكان (تحت سن 25 عاما)، غير مستعد لأنْ يقبل الهوان والذل اللذين كان يقبلهما آباؤه على مدى الأربعين عاما الماضية، وأصبح يطالب بالتغيير الجذري، للوصول إلى العدالة الاجتماعية والتغيير الديمقراطي وتوزيع ثروة البلاد على أسس المساواة. دائرة الانتفاضة الليبية تتسع وتمتد إلى محافظات ومدن خارج منطقة برقة في الشرق، حيث تتحدث أنباء عن وصولها إلى الزاوية غرب طرابلس، ومصراته، وبعض أحياء العاصمة وغدامس، منطقة الأمازيغ في الجنوب. المتظاهرون يريدون تغيير النظام واقتلاعه من جذوره، والنظام يريد سحق الانتفاضة، ولهذا تتصاعد أرقام القتلى والجرحى بشكل مرعب، حيث تستخدم القوى التابعة للنظام الذخيرة الحية والقنابل الصاروخية في تصديها للمحتجين، وهناك من يتحدث عن مقتل حوالي 400 شخص حتى الآن وسقوط آلاف الجرحى. النظام الليبي تعلم من تجربتي تونس في الغرب ومصر في الشرق، وهو يعتقد أن تردد النظامين فيهما في ارتكاب مجازر دموية ضد المتظاهرين هو الذي أدى إلى سقوطهما، ولذلك حشد كل ما في جعبته من وسائل قمعية لإخماد الانتفاضة الشعبية، المنتفضون الليبيون تعلموا أيضا من تجارب زملائهم في تونس ومصر، من حيث الاستمرار في الاحتجاج وعدم التوقف في منتصف الطريق، حتى تتحقق مطالبهم كاملة في تغيير النظام، ولذلك علينا أن نتوقع المزيد من المجازر وآلاف الجرحى، والمؤلم أن المستشفيات الليبية في حال سيئة، بل سيئة جدا، وتفتقر إلى أبسط وسائل الرعاية الطبية، مثلها مثل جميع الخدمات الأساسية في البلاد، وهي خدمات أهملها النظام بالكامل. الزعيم الليبي لا يكن الكثير من الود للجزء الشرقي من بلاده، ومدينة بنغازي على وجه الخصوص، رغم أن هذه المدينة كانت من أكثر المدن الليبية مساندة لثورته ضد النظام الملكي في أيامها أو سنواتها الأولى، وقد قرر ترفيع جميع طلاب كلية الحقوق في جامعة بنغازي دون امتحانات، لأن طلاب هذه الكلية كانوا الأكثر حماسا في تأييدهم للثورة، فهذا الجزء كان مصدر متاعب وانقلابات ومولدا للجماعات المتطرفة. كراهية الزعيم الليبي للمدينة جعلته قليل الإقامة فيها، ودفعته إلى تغيير اسمها، تارة إلى «قار يونس»، أو «قورينا» وهو الاسم التاريخي لها في عهود الرومان، فمدينة بنغازي كانت الأكثر معارضة لنظامه واللجان الثورية الداعمة له في السنوات الأخيرة، وليس غريبا أن تنطلق الشرارة الأولى للانتفاضة الحالية منها، فقد تأثرت على مر العصور بما يجري في مصر، وكانت الأقرب إليها، وأبناؤها الأكثر قومية وتأثرا بالثقافة والسياسة المصريتين. الزعيم الليبي شخص يتسم بالعناد والتصلب في مواقفه، والنزق في ردود فعله، ومن غير المتوقع أن يتنازل بسهولة لمطالب المنتفضين، فهو لم يتنازل لمطالب زملائه في مجلس قيادة الثورة، وتعامل مع معارضيه بقسوة غير معهودة، ولم يبق إلى جانبه من أعضاء المجلس المذكور إلا بضعة أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة، مثل مصطفى الخروبي وأبو بكر يونس والخويلدي الحميدي (على علاقة نسب بالعقيد حيث تزوج ابنه الساعدي من كريمة الأخير). الثورتان المصرية والتونسية انتصرتا لأن المنتفضين كانوا طويلي النفس، ولأن المجتمع في البلدين مجتمع مدني غير قبلي عماده طبقة وسطى قوية ومواطنون حرفيون (مزارعون بالدرجة الأولى)، بينما المجتمع الليبي يغلب عليه الطابع القبلي مثله تماما مثل المجتمع اليمني، حيث يلعب العامل القبلي دورا كبيرا في نجاح الثورة أو فشلها، بقاء النظام أو سقوطه. فما هو موقف قبائل المقارحة والعبيدات والزنتان بعد انضمام قبيلة الورفلة الكبيرة إلى الانتفاضة؟ هناك عنصر آخر يمكن إضافته في هذا الإطار، وهو عدم وجود جيش قوي في ليبيا على غرار مصر وتونس. فالزعيم الليبي كان يخشى الجيش ولا يثق به ويعتبره خطرا على نظامه، ولهذا قرر حله تحت مسمى «الشعب المسلح» كبديل، ويعود ذلك إلى محاولة الانقلاب الأولى التي قام بها عمر عبد الله المحيشي، عضو مجلس قيادة الثورة، الذي أعدم لاحقا بعد تسليمه من قبل ملك المغرب الراحل الحسن الثاني. هذا لا ينفي أن هناك بقايا للجيش في ليبيا، ولكنه ضعيف التسليح ومشكوك في ولائه، ومن المستبعد أن يلعب دورا كبيرا في حسم الأوضاع لهذا الطرف أو ذاك، وهذا ما يفسر لجوء الزعيم الليبي إلى تعزيز دور الميليشيات وقوات الأمن الخاصة التي يرأسها أبناؤه أو أفراد قبيلته. أصدقاء النظام الليبي قليلون في الوطن العربي، وأصدقاؤه الجدد في الغرب ما زال عود صداقتهم أخضر لم يتصلب بعد، ولذلك من الصعب أن نتوقع أي مساندة قوية من الشرق أو الغرب أو الشمال، بل لا نستبعد أن نرى العكس تماما، فسيناريو دارفور قد يتكرر في ليبيا إذا تصاعدت أعداد القتلى والجرحى، ونرى قرارا قد يصدر عن مجلس الأمن بالتدخل تحت عنوان حماية الأبرياء.. ولن نفاجأ أيضا إذا نص القرار المذكور على مناطق حظر طيران في الشرق أو الجنوب على غرار ما حدث في العراق قبل الغزو والاحتلال للعراق. النظام الليبي يستخدم كل ما لديه من أوراق، سواء الأمنية منها أو الدعائية، فتسريب أنباء عن قيام دولة إمارة إسلامية في شرق ليبيا بعد سقوط المنطقة بالكامل في يد المتظاهرين هو إحدى هذه الأوراق التي تريد تخويف الغرب من الحركة الاحتجاجية المتفاقمة. الغرب من سوء حظ النظام لم يعد يقبل هذه «الفزاعة» أو لم يعد قادرا بالأحرى على إنقاذ حلفائه من الديكتاتوريين أمام الثورات الشعبية. فإذا كان هذا الغرب تخلى عن الحليف الأكبر حسني مبارك، الذي قدم خدمات إلى إسرائيل وأمريكا لم يقدمها الأوربيون أنفسهم، فهل نتوقع أن يتمسك بالزعيم الليبي معمر القذافي ونظام حكمه؟ الانتفاضة لن تتوقف في ليبيا، وكذلك محاولات النظام قمعها، ولذلك علينا أن نتوقع، ونقولها بألم شديد، المزيد من حمامات الدم، ولهذا فإن ليبيا أمام ثلاثة خيارات: الأول: أن يرحل النظام طوعيا، تقليصا للخسائر مثلما فعل الملك إدريس السنوسي عام 1969 عندما علم بأنباء الثورة العسكرية، فتوجه إلى القاهرة وعاش على صدقات نظام عبد الناصر بعد أن سلم كل ثروته أو ما في عهدته من أموال إلى النظام الجديد، بما في ذلك سيارته الرسمية. الثاني: أن ينفرط عقد الوحدة الليبية إلى دولتين أو ثلاث، بحيث يبقى النظام في إحداها. الثالث: أن تمتد الانتفاضة إلى مختلف أنحاء البلاد وتجبر رأس النظام وأسرته على الهرب ربما إلى إحدى الدول الإفريقية للنجاة بجلده تجنبا لملاحقات أو محاكمات لاحقة. الخيار الأخير.. خيار انتصار الانتفاضة الليبية وبقاء البلاد موحدة هو الأكثر ترجيحا في نظرنا، وإن كنا نعترف بأنه إحدى أماني الغالبية الساحقة من الشعوب العربية.