ما يقع في المغرب اليوم محير فعلا، حيرة تدفعنا إلى أن نكون «متشائلين»، اقتباسا من الرواية الشهيرة للراحل إميل حبيبي «المتشائل»، فمن جهة مقولة «ميدان التحرير» ليست قدرا تماما كما أن التاريخ لا تحكمه قوانين الميكانيكا، فالتاريخ تواريخ والواقع وقائع بالجمع، ومن يقول أو يهمس أو يحرض.. بإمكانية انتقال ثورتي الشعبين التونسي والمصري إلى المغرب، فلأمرين مرفوع ثالثهما، فإما لضيق رؤياه أو لخضوع نفسه لما يسميه اسبينوزا ب«الكوناتويس»، وهو مزيج من الخوف والأمل، وفي كلتا الحالتين يغيب الاحتكام إلى العقل والإنصات الجيد لمنطق التاريخ، فالنصف قرن من تجارب الدولة الوطنية في مختلف الأقطار العربية جعل لكل نظام خصوصية وأعمى من لا يرى هذه الخصوصيات، فتونس ليست هي الجزائر، وهذه ليست هي المغرب، والمغرب ليس هو مصر، وإلا هل ينتظر الشعب الجزائري، مثلا، أن يقوم الجيش بما قام به الجيش التونسي أو المصري؟ ببساطة.. لا، لأنه يحكم من خلال ستار مدني هو بوتفليقة، وقس على ذلك. ومن جهة أخرى، فالمواطن المغربي يعيش هشاشة غير مسبوقة، وعلى جميع الأصعدة، ومن الخطأ والخطر أيضا ألا تبادر الدولة في الأيام القليلة المقبلة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لاستدراك أخطاء التدبير التي تراكمت في السنوات الأخيرة. ووضع الهشاشة هذا عملت عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة على خلق الشروط الموضوعية لتشكلها، وبالتالي فطلب التسريع بإعمال مبادئ الديمقراطية هو أولى أولويات أجندتنا الوطنية اليوم، فعدم استقلالية القضاء والإفلات من العقاب، واستحكام الفساد الإداري والمالي بشكل سرطاني في كل القطاعات العمومية، ولا وطنية البورجوازية المغربية، ومحدودية مشاريع التنمية البشرية، وضعف التعليم، وعدم شفافية مشهدنا السياسي والحزبي، وغياب حوار وطني حول الثروة الوطنية، أضف إلى ذلك ضبابية الرؤية في التدبير المجالي، كلها مظاهر موضوعية لتعثر الديمقراطية. ومن الطبيعي أن ترافق لحظات الالتباس هذه حاجة بعض الأقليات إلى توظيف هذه المعطيات غير المشرفة للدعاية الشعبية لمشاريع يعتقد أصحابها أن هويتهم وحدها هي القادرة على إصلاح أحوال هذا الوطن، بينما حل هذه الإشكالات لا يتم إلا بإعمال دولة المؤسسات وحقوق الإنسان والديمقراطية البرلمانية. فإذا كان يحلو للبعض اليوم النظر إلى التعددية السياسية والثقافية بحسبانها تمييعا وتشتيتا للمشهد الحزبي، فإن مطلب الدمقرطة هو ما يحول الحق في الاختلاف إلى ضامن حقيقي لأن تكون هذه التعددية عنصر إغناء لا تفقير. وعندما نقول التعددية فإننا لا نروم مباركة هذا الشكل غير المشرف للتعددية السياسية في راهننا الحزبي، والذي تحولت فيه الأحزاب إلى ممتلكات شخصية وفئوية، تختصر اهتمامها بالمواطنين في أصواتهم الانتخابية بدل قدراتهم الشرائية وأوضاعهم الصحية والتعليمية، تعددية ينعزل فيها كل طرف سياسي عن الآخر وينتظر أخطاءه وكبواته، بل نقصد التعددية التي تنتظم وفق فلسفة مشروع مجتمعي عقلاني حداثي، مشروع يمكّن هذا الشعب من ثرواته الوطنية ويعطيه حق اختيار البرامج السياسية والاقتصادية والثقافية بعيدا عن كل أشكال الوصاية التي لا زالت ترهن حاضرنا لنظام سياسي ماضوي. هكذا، يصبح الحق في الاختلاف والدمقرطة والتعددية السياسية والثقافية والدينية شروطا أساسية لتحقق مطلب التحديث، وبالتالي فإن أي تجزيء لهذا النسق هو تناقض تام مع جوهر التحديث، وهذا التجزيء المولد لكل أشكال الانتهاك هو تماما ما نلاحظه اليوم في مشاريع سياسية تطالب بالديمقراطية لتنقلب على الحق في الاختلاف، وتطالب بالحق في الاختلاف خطابيا. ونحن نتابع الحراك الإلكتروني الذي يجري حول المغرب، نجده يجعل المغربي العاقل والشريف متناقضا في تصوراته وأحكامه ومواقفه وحتى في مشاعره، حسب حساسيته السياسية وحجم طموحه الفردي والجماعي وحسب زاوية ومجال تقويمه، إذ منا المتفائل المبتهج بما حصل في المغرب في العقد الأخير، لتذكره الرعب الذي ران على عقود ما قبل العهد الجديد، عندما كان مثلا المنشور النقابي والكتاب الثقافي والجريدة الحزبية محرمات تُنتج وتقرأ وتسلم وراء حجاب، كأنها الأفيون الذي يتم تعاطيه سرا، وكانت مجرد الوشاية المغرضة عن انتماء حزبي أو نقابي قادرة على أن تهوي بصاحبها سنين عددا في قعر الأرض، وكانت الغواني والمتسكعون يوظفون لافتعال مشاجرات في الشارع العام مع المناضل المثقف، ليتهم بالتهم الغليظة.. عندما يتذكر المتفائلون منا هذا، يعرفون اليوم أننا في مغرب آخر، ولتكن هويته أي شيء إلا الرعب فقد انتهى أو كاد. وبالمقابل، فللمتشائمين فينا نصيب من الوجود والتواجد أيضا، مستندين إلى معطيات بعضها ينتمي إلى التأويل أو إلى التضخيم أحيانا، وبعضها ينتمي إلى الواقع المشخص أمامنا، ولا نملك إلا أن نقر لهم بحقهم في التشائم.. مثلا، تزايد التباينات الطبقية، واستمرار التضييق على حق التعبير، استمرار تدخل الإدارة الترابية في العملية الانتخابية، إما عبر التأثير في الناخبين أو في المرشحين، استمرار اقتصاد الريع بجميع مظاهره، التساهل مع إهدار المال العام وعدم القدرة أو عدم توفر الإرادة لمتابعة ناهبي المال العام، استمرار سياسة الأوامر في تحويل سير المحاكمات، تمييع الحياة السياسية.. هذه بعض أدلة المتشائمين. إذن، من يتتبع حجج المتفائلين وحجج غيرهم من المتشائمين.. سيجد أن كلا الفريقين محق، فمغرب اليوم محير حد القلق، يشبه إلى حد كبير القصة الشهيرة للكأس نصف المملوءة، المتشائم يحسبها فارغة والمتفائل متأكد من امتلائها، فمغرب اليوم ملتبس حقا، لكن ليس إلى درجة السواد.. مغرب اليوم تظهر معالمه ولكن ليس إلى درجة «الزجاجية».. والنتيجة على مستوى الوجدان، مغربنا يشجعنا على التفاؤل والتشاؤم، فللمتفائلين حقهم المشروع والمسنود واقعيا، وللمتشائمين أيضا حقهم المسنود بمعطيات الواقع الملموس. أما كيف لمغرب اليوم أن يقوي جناح المتفائلين، فتلك أم الرهانات في العقد الثاني والتي لم تبدأ فعليا. تبدأ الملحمة المغربية بأن نحمي الديمقراطية بالديمقراطية، ونحمي حقوق الإنسان بحقوق الإنسان، ونحمي القانون بالقانون، وهذه هي الروح التي ينبغي أن تشكل قاعدة لعواطف وعقول الجميع، أما حماية الحقوق الفئوية بانتهاك الحقوق الشعبية، وحماية القانون بانتهاك القانون، واستمرار الممارسات القمعية المستندة إلى تأويلات غير بديهية للخطوط الحمراء، فهذه هي الطريق المعبدة للتشاؤم، حيث تتم تقوية شوكة الأعداء الحقيقيين للديمقراطية، والذين يتبنون نوعا من الاستدلال الذي يربط بين انتهاك حق من الحقوق للحكم بفساد كل النظام ومن ثمة جواز الخروج عنه. عندما نخطئ في تحسس طريق دولة الحق والقانون، فإننا نشجع، دونما قصد، أعداء الديمقراطية المتربصين بأخطائنا في الممارسة الديمقراطية، والذين يعتمدون على استدلال شعبوي يستهدف عواطف البسطاء من المواطنين و«البلطجية» بلغة أهل الكنانة، للترويج لنظم طوباوية تصنف الواقع وتؤول حيثياته بحسب الفكرة، لا تطوير الفكرة لتكون واقعية وموضوعية. هكذا تتسارع الأحداث في منطقتنا العربية، التغيير لا بد منه، فما حقق على جميع المستويات ضخم ولا ينكره إلا تجار التشاؤم المنتفعون بيأس الغوغاء والجياع، لكن ما ينتظرنا أكبر من أن نحققه بالوتيرة الحالية، خصوصا أمام التفاوت المسجل اليوم على نحو واضح بين الانتظارات الشعبية والوتيرة التي تستجيب بها طبقتنا السياسية ذات النفس السياسي الموسمي..، وأملنا أكبر في الآتي أن تتلو كل هذه الأوراش الكبرى، المفتوحة اقتصاديا واجتماعيا وتربويا، خطوات شجاعة في اتجاه تعزيز ديمقراطية نظامنا السياسي بعيدا عن كل أشكال الانتهاك التي يخلفها هواة التأويل ومحترفوه من القضاة والساسة، فحيث يعم الالتباس تنتعش تجارة التشاؤم.. فإلى متى سيقاوم المتفائلون منا الرياح الفايسبوكية التي تهب من كل مكان؟