سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ابن يقيد يده و يد أبيه بحبل كلما حل الليل مخافة أن يتعرض الأب المصاب بألزهايمر لأي مكروه كان أبوه يتجرد من ملابسه في المنزل دون أن يأبه بأحد و يصلي بدون وضوء
ماذا لو أصيب أبوك أو أمك أو أي فرد من العائلة بألزهايمر؟ سؤال قد لا يتبادر إلى أذهان العديدين. لكن من يعيش مثل هذه التجربة يعرف جيدا معنى ذلك. «كانت تجربة قاسية و رهيبة» يعلق حسن الذي توفي أبوه قبل ثلاث سنوات. «كان مريضا بألزهايمر.. ظل أكثر من عشر سنوات و هو يعاني..في الواقع كنا جميعا نعاني: هو و أنا و أمي.. كانت فترة صعبة». لم يتردد حسن لحظة حين طلبنا منه أن يحدثنا عن ألزهايمر و أبيه و عائلته. لكن ما إن شرع في الحكي و بدأت الذكريات تنثال حتى أخذت ملامح وجهه تتقلص بين الوقت و الآخر. أحيانا كان يلتجئ إلى الصمت. يحتمي به لحظات قبل أن يعاود الحكي. كان الأمر صعبا عليه وهو يعيد تفاصيل تجربة مريرة عمرت عقدا من الزمن. بداية غير متوقعة يحكي حسن أنه لحد الآن لا يعرف بالتحديد متى أو كيف أصيب والده بالمرض، «كل ما أتذكره جيدا أنه بعد أشهر قليلة فقط على إحالته على التقاعد سقط من سطح منزلنا. كانت صدمة قوية بالنسبة إلي حين علمت بالخبر. لكن ما اندهشت له أكثر في ذلك الوقت أنه لم يصب بأي أذى. صحيح أنه كان قوي البنية، أقوى مني شخصيا، لكن أن يسقط من علو طابقين على ظهره دون أن يصيبه أي مكروه فهذا ما لم أستوعبه إطلاقا». لم يعرف حسن بالتحديد سبب سقوط والده. لكن فيما بعد سيبدأ يلاحظ عليه بعض التغيرات في سلوكه، «صار يُهَلوس ويتحدث عن أشياء لا يراها و لا يسمعها سواه. كان يحكي دوما عن أشخاص يطاردونه باستمرار و يريدون اختطافه. وفي الليل كان يظل صاحيا و لا يتركنا ننام. كان طول الليل يضع أذنه لصق الجدار ويتنصت على ما يحدث في الشارع. أحيانا كان يوقظني من النوم ليقول لي إنهم يتربصون به في الخارج كي يختطفوه». خشي حسن أن تكون تلك السقطة أثرت على دماغ والده فصحبه إلى مستشفى عمومي بالبيضاء. هناك سينصحونه بعد فحصه بأن يتوجه به إلى الجناح رقم 36 الخاص بالأمراض العقلية. لكن حسن رفض ذلك وقرر أن يذهب به إلى مختص في طب الأعصاب عملا بنصيحة أحد أصدقائه. لكن في اليوم الذي قرر أن يصحب والده إلى الطبيب حدث ما لم يكن يتوقعه. «كان من عادة أبي أن يخرج لصلاة الفجر دائما، لكن في اليوم الذي كنت سأصحبه إلى الطبيب خرج في الفجر ولم يعد. لم أعلم بذلك حتى استيقظت من نومي. ظللت أنتظر عودته قلقا، ثم خرجت أبحث عنه حتى حدود الثانية زوالا حين جاء به شخص إلى المنزل. كان معفرا بالرمل و ثيابه متسخة. وقال لنا ذلك الرجل إنه وجده مرميا بشاطئ عكاشة بمنطقة عين السبع البعيدة جدا عن منزلنا بالمدينة القديمة. لحسن الحظ أنه ظل يتذكر عنوان المنزل، فحمله الرجل إلينا. وحين سألت أبي لماذا ذهب إلى هناك قال لي ببساطة إن رجلين طويلي القامة، أحدهما أبيض و الآخر أسود، ساقاه إلى هناك». في اليوم نفسه حمل حسن والده إلى عيادة الطبيب. وهناك سيعرف أن والده أصيب بمرض فضل الطبيب عدم ذكر اسمه. «لم يقل لي الطبيب شيئا عن اسم المرض الذي أصاب والدي. إذ اكتفى بعد فحصه بأن أخبرني بأن تصرفاته ستتغير فيما بعد، وأنه سيفاجئنا بأشياء لم نكن نتوقعها منه». حدث ذلك سنة 1998. كان ألزهايمر لا يزال غير معروف في المغرب. لكن بعد مدة سيعرف حسن طبيعة المرض الذي غيّر والده. سنوات من المعاناة كانت الشهور الأولى قاسية على عائلة حسن: هلوسات الأب المتكررة، إزعاجه المستمر لهم في الليل، و ميله إلى العنف أحيانا... و كانت أولى ضحايا عنفه زوجته نفسها. «كاد يقتلها في إحدى المرات» يحكي حسن. قبل أن يضيف «ضربها بقوة حتى أغمي عليها.المسكينة لم تتحمل ضربته فأُغشي عليها». منذ تلك الحادثة قرر حسن أن يتولى بنفسه العناية بأبيه بعدما كانت أمه هي من يتولى ذلك في البداية. قرار كانت نتيجته أن تخلى الابن عن عمله وصار متفرغا لأبيه كليا. «طبعا أثر ذلك على حياتي» يقول حسن. يصمت قليلا قبل أن يضيف «أن تفقد عملك، أن تظل قابعا بالمنزل لا تغادره إلا قليلا، و أن تقلص من هامش حريتك الشخصية... كل هذا أثر سلبا علي. لكن لم يكن لدي أي خيار آخر. لو تركت والدتي وحدها مع أبي كان حتما سيقتلها». كانت والدة حسن مسنة. كما كانت مريضة بالسكري. لذلك قرر أن يبعدها عن مشاكل أبيه الصحية. و لحسن حظ العائلة أن كانت لها شقتان، فقرر حسن أن يجعل من الأولى مسكنا له و لوالده، فيما طلب من أمه أن تستقر بالثانية حتى تكون بمنأى عن عنف أبيه، لأنه كان يعلم جيدا أن بقاءها معه قد يعرضها للخطر. «لم تكن أمي تدرك طبيعة مرض أبي. لذا كانت تنتقد باستمرار تصرفاته الغريبة، وكان هذا يثير غضبه، فيتصرف أحيانا بعنف». عنف لم يكن حسن يفهم بواعثه إطلاقا، «لم يكن أبي أبدا عنيفا.رغم قوته الجسمانية كان مسالما.لكن بعدما أصيب بالمرض تغير». مرة هاجم أحد سكان الحي و طعنه بسكين. لحسن الحظ، يحكي حسن، أن الطعنة لم تكن قاتلة. كما كان أحيانا يعنّف أي شخص كان يسمعه ينطق اسم أحد أبنائه في الشارع ظنا منه أنه يريدهم بسوء. «لكن الغريب في الأمر، يقول حسن، أن نوبات غضبه تلك كان لا يتذكرها، وحين كنت أخبره فيما بعد بما فعل كان لا يصدق ما أقوله، وكان يصر على أنه لم يفعل أي شيء». تكلفة باهظة كان الابن يفاجأ في كل مرة بتصرف غريب لم يعهده سابقا في أبيه كأن يتجرد من ملابسه في المنزل دون أن يأبه بأحد أو يصلي دون وضوء ودون أن يأبه أحيانا بآثار البول الذي يبلل ثيابه. هذه التصرفات الغريبة جعلت الابن في حالة استنفار مستمرة، وكان دائما يراقب والده حتى صار مثل ظله. وفي الليل كان يضطر إلى النوم جنب سريره حتى يكون مطمئنا عليه. لكن غالبا ما كان يستيقظ دون أن يجد أباه في سريره.إذ كان كثيرا ما يلقاه ملتصقا بالنافذة يصيخ السمع لأي حركة في الشارع أو يجده متسمرا أمام رأسه يتأمله في صمت. وكان ذلك يثير فزع الابن، «تصور أن تفتح عينيك فجأة في الليل فتجد عينين تراقبانك في الظلمة..أي خوف يمكن أن يجتاحك في تلك اللحظة». لكن أكثر ما كان يرعب حسن هو أنه لم يكن يتكهن بالضبط بما يمكن أن يقدم عليه والده. لذا سيضطر فيما بعد، لإيقاف مسلسل الرعب هذا، إلى ربط يده بيد أبيه عبر حبل رقيق موصول بينهما كلما حل الليل. وسيلة صارت تساعده كثيرا على الاستيقاظ من النوم بمجرد ما كان أبوه يغادر سريره. و لحسن حظ حسن أن هذا الوضع المُتعِب لم يستمر طويلا بعدما صار الأب يتناول المهدئات. كما أن العلاج، الذي وصفه له الطبيب بدأ يظهر تأثيره على حالته الصحية، التي صارت مستقرة نسبيا، وهو ما جنب العائلة مشاكل عديدة كانت أسر أخرى تعانيها مع أفرادها المصابين بألزهايمر. لكن ثمن هذا الاستقرار النسبي كان غاليا.إذ كانت الأسرة تدفع شهريا زهاء 1500 درهم ثمن الأدوية التي كان الأب يتناولها. وضع استمر أكثر من عشر سنوات دون توقف وأرهق الأسرة كثيرا. لكن حسن كان يعلم أن ذلك هو الحل الوحيد، «بدونه كنا سنعاني أكثر مع أبي.صحيح أن الدواء كان غاليا و كان علينا أن ننفق كل ثلاثة أشهر أزيد من ستة آلاف درهم، لكن لم يكن لدينا أي خيار آخر». في سنة 2008 توفي والد حسن. لم تتدهور حالته كثيرا كما يحدث عادة لمرضى ألزهايمر. لكن ثمن ذلك كان غاليا.