يرجع الاهتمام بمسألة الديمقراطية والدولة الحديثة في الفكر العربي إلى مرحلة القرن التاسع عشر من خلال الكتابات النهضوية العربية التي اهتمت بالموضوع، في علاقة بالمستجدات التي فرضتها التجربة السياسية الغربية الحديثة. فقد وعى المفكرون النهضويون -سلفيين وليبراليين- بأن مكمن الداء يوجد في الممارسة السياسية التي رسخت قيم الاستبداد وحكمت على الشعوب العربية بالتخلف والجهل، وهذا ما انعكس سلبيا على الواقع العربي وفتح المجال أمام القوى الأمبريالية، لفرض الهيمنة على العالم العربي، بمشرقه ومغربه. هكذا آمن مفكرو النهضة العربية بأن النضال الوطني ضد الاستعمار لا يجب أن ينفصل عن مهمة بناء وتحصين الذات، لأن مواجهة التحديات الخارجية تتطلب قوة وتماسكا داخليا، يجب أن يكون في مستوى التحديات المفروضة، وإلا اتخذت هذه المواجهة طابعا فانطازيا غريبا، لا يدخل المعارك إلا ليخسرها. من هنا، كان مشروع بناء الدولة العربية الحديثة يسير جنبا إلى جنب مع مشروع تحرير الوطن من الاستعمار. وإذا كان هدف التحرر والاستقلال قد تحقق -نسبيا- فإن مشروع الدولة الحديثة ما يزال يراوح مكانه إلى حدود الآن، لأن التحقق النسبي للمشروع الأول غطى على المشروع الثاني، بادعاء التدرج في تحقيق الأهداف. لقد طرح مفكرو النهضة العربية مسألة الديمقراطية والدولة الحديثة من خلال مستويين أساسيين: - أولا: من خلال محاربة الاستبداد، كفكر وكممارسة سياسية. وقد أبدى النهضويون في هذا المجال نضجا كبيرا، يتجاوز قدرات المرحلة. ولعل عودة خاطفة إلى كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، لعلي عبد الرازق، لتشي بالكثير من الاجتهاد الذي نفتقده الآن كجيل جديد، للأسف الشديد. يوجه الشيخ علي عبد الرازق، في كتابه، سهام نقده إلى دعاة الخلافة من فقهاء البلاط، ويجادلهم بالنص الديني الواضح ليثبت لهم أن الخلافة شأن مدني لا دخل للدين فيه، وهو في ذلك يقول: «والحق أن الدين الإسلامي بريء من الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيؤوا حولها من رغبة ورهبة ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة». وهو، في نقده لنموذج الخلافة، يسعى إلى محاربة كل أشكال الاستبداد التي يتم تبريرها باسم الدين. وهو، في الآن ذاته، يفتح الباب واسعا أمام نظام الدولة المدنية الحديثة التي تقوم على الديمقراطية والمؤسسات. - ثانيا: من خلال الانخراط المباشر في الدعوة إلى ترسيخ قيم الديمقراطية والدولة الحديثة، وذلك من خلال التبشير بنموذج الدولة الأوربية التي اخترقت الوعي السياسي النهضوي، ونجد ذلك واضحا في كتابات رفاعة الطهطاوي والصفار وخير الدين التونسي ومحمد بن الحسن الحجوي، وغيرهم كثير من النهضويين. والجامع بين هؤلاء هو معايشتهم للتجربة السياسية الأوربية، إما بشكل مباشر (الطهطاوي) أو بشكل غير مباشر (محمد بن الحسن الحجوي). لكن في كلتا الحالتين، وصل التأثر مداه وأعلن عن نفسه بوضوح في كتابات هؤلاء النهضويين الذين كانوا على وعي كبير بمسألة الديمقراطية والدولة الحديثة، في نجاح طموحات النهضة العربية. لكن مسألة الديمقراطية والدولة الحديثة، من المنظورين معا، لم تحقق المبتغى والمطلوب الذي يمكنه أن يمهد الطريق أمام إقامة هياكل الدولة العربية الحديثة وترسيخ قيم الديمقراطية، باعتبارها الأساس المتين للدولة. ويرجع هذا الفشل -من منظور الأستاذ عبد الإله بلقزيز- إلى ثلاثة عوامل أساسية: 1 - أن صلة هذا الجيل النهضوي بالفكر الليبرالي الحديث كانت ما تزال تخطو خطوها الأول ولم تترسخ الرسوخ الكامل الذي بإمكانه أن ينجب لحظة فكرية-سياسية لاحقة، مع لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى، أو محمد بن الحسن الوزاني. 2 - أن هؤلاء النهضويين، عاشوا في فترة لم يكن النظام الديمقراطي الغربي نفسه قد شهد فيها نضوجه الكامل، بحيث يصير نظاما عموميا للتمثيل والمشاركة. 3 - أن الإصلاحية العربية كانت مدعوة إلى إيجاد صلات قرابة بين هذه المنظومة الديمقراطية الحديثة والمنظومة السياسية الشرعية. وكنتيجة مباشرة لتوافر هذه العوامل المعرقلة ولعجز المرحلة عن استيعاب الفكرة الإصلاحية، بطموحاتها السياسية الكبيرة، تحقق الانتقال إلى ترسيخ نموذج الدولة الشمولية، إما من خلال الاستفادة من التراث السياسي القديم (بنية الشيخ والمريد) أو من خلال الانفتاح على النموذج الشمولي الاشتراكي الذي يقوم على نظام الحزب الواحد. وفي كلتا الحالتين، خسرت الدولة العربية الحديثة رهان تحقيق الديمقراطية وترسيخ أسس دولة المؤسسات. وكنتيجة مباشرة لهذا الفشل، كان إجهاض حلم الدولة العربية الحديثة يؤسس لإجهاض حلم الأمة العربية القوية التي تقوم على أساس دول الديمقراطية والمؤسسات. لقد تم استبدال الديمقراطية، التي هي أساس الدولة الحديثة، بالثورة التي اتخذت -في الأغلب- طابعا يسارويا يعتبر أن الديمقراطية ترف فكري وسياسي، وهي ألعوبة الغرب للسيطرة على العالم العربي، ولذلك فهي ليست بهذه الأهمية التي تجعلنا نلهث خلفها! لكن الحقيقة التي كانت ثاوية خلف هذا التحليل المتهافت هي أن غياب الديمقراطية يفتح المجال أمام (الثوار) لجني ثمار ثورتهم لوقت أطول، في غياب التداول السلمي على السلطة الذي يمكنه وحده أن يضخ دماء جديدة في شرايين الدولة ويجنبها خطر التصلب. وهكذا، استمر شعار الثورة بديلا للديمقراطية حتى أصبحت هذه الثورة تأكل أبناءها، مهددة استقرار الكثير من الدول العربية التي أصبحت مهددة في كل يوم، إما بالبلقنة وإما بالانفصال إلى دويلات/قبائل غير قابلة للحياة. إن ما أصبح يتضح يوما بعد الآخر هو أن فشلنا في ترسيخ القيم السياسية الحديثة، من ديمقراطية وحرية وتعددية...، أصبح يهددنا بمصير مجهول، على المدى القريب بله المتوسط والبعيد، وذلك لأن استراتيجية الاستعمار الجديد تقوم على أساس استغلال هذه الثغرات لفرض الوصاية علينا، باسم القانون الدولي. ولعل ما جرى في العراق، وما جرى في السودان، وما جرى في تونس وما يجري الآن في مصر، ليؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن تحقيق استقرار ونهضة عالمنا العربي يمر بالضرورة عبر إصلاحات سياسية حقيقية وجوهرية، تفتح المجال أمام التعددية الحزبية الحقيقية وتسمح لجميع الأعراق والمذاهب والتيارات... بالمشاركة الفاعلة في صناعة القرار السياسي، بشكل ديمقراطي واضح وشفاف. ومن شأن هذه الإصلاحات السياسية أن تحد من القلاقل الداخلية التي تفتح المجال أمام التدخلات الأجنبية التي تفرض خيارات تخدم، في الأخير، أجندتها الخاصة. إذا كنا على وعي تام بالمسؤولية التي نتحملها، شعوبا وأنظمة سياسية ونخبا فكرية، فإن مسؤوليتنا مزدوجة، إذن، بقدر ما تخص ضرورة الوعي بالمخططات الاستعمارية الجديدة التي تستهدفنا تخص كذلك ضرورة الوعي بما يعيشه راهننا العربي من أشكال التردي السياسي الناتج عن غياب دولة المؤسسات، القادرة لوحدها على إخراجنا من الورطة التي تتسع كل يوم أكثر، لأن الديمقراطية تقوم على أساس التداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطات وتمتيع المواطنين بحقوق مدنية كاملة في حكم أنفسهم بأنفسهم، عبر ممثليهم المنتخبين بشفافية ومصداقية. إن النضال الحقيقي في العالم العربي اليوم يجب ألا يفصل بين تحديات الداخل والخارج، لأنهما معا على نفس الخطورة، فإذا كانت مسؤوليتنا عن تحصين سيادتنا الوطنية كبيرة فإن مسؤوليتنا عن دعم وترسيخ هذه السيادة أكبر، عبر النضال المستميت في سبيل بناء الدولة الحديثة وترسيخ الديمقراطية الحقيقية. إدريس جندا ري - كاتب وباحث أكاديمي