كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. لم يكن الأمر كذلك في 1951م. انتصر حينئذٍ اليسارُ والتيار القومي الليبرالي العِلماني، وأصبح محمد مصدِق (1880-1967م) رئيساً للوزراء. أمّا الشاه فهرب إلى الخارج. لكن الحكومة فشلت في حشد التأييد الشعبي للدفاع عن نظام مصدِّق ضد الانقلاب الضادّ الذي شنته «وكالة الاستخبارات المركزية» الأمريكية والاستخبارات البريطانية، بحيث أرجعَ الغربُ الحاكمَ الدّعيّ وحطم تلك الفرصة التي ربما كانت ستسمح لإيران بالمضِي قدُماً معتمدة على نفسها. في 1953م، قرر الأرستقراطي السابق والمنحدر المباشر من آخر ملوك قاجَار أنْ يتصدّى في النهاية للقوة. صمد حرس مصدق حتى النهاية. أراد العجوز هو الآخَر أن يقاوم، لكنه كان يأمل أن تخرج خلايا «التودا» الموجودة في صفوف الجيش، وهو حضور سرّي عتيد، وتدافع عنه. تدَخلُ هؤلاء لم يكن بالحماس الذي يكسبه النجاح. وقد اعتقد بعض قادة الحزب أنهم قد يأخذون بزمام الأمور عند تنحّي مصدِق، غير أن اعتقادهم كان طائفياً وغبيّاً معاً. وما إن عاد الشاه إلى الحكم حتى تم القضاء بطريقة وحشية على تنظيم «التودا» داخل الجيش. ولن يستطيع الحزب الشيوعي استرجاع عافيته أبداً بعد هاته الضربة القاضية. صرفت «وكالة الاستخبارات المركزية» الأمريكية خمسة ملايين دولار لمساعدة رجال الدين الموالين للغرْب لاكتراء الرعاع وشق الصفوف. وفي الأخير، سقط مصدِّق. أمّا جريمته فكانت تشبه جريمة جمال عبد الناصر: قام بتأميم النفط الإيراني، فغضبت الحكومة البريطانية غضباً شديداًً. كان مصدِق يعتقد أنّ الولاياتالمتحدةالأمريكية قد تحذر بريطانيا من التدخل، ولمدة قصيرة تظاهرَ الرئيس الأمريكي هاري ترومان ووزير خارجيته دينْ أيكسون بالحياد من خلال دعوة الطرفين إلى ضبط النفس. هاته المرّة، فازتْ لندن عبْر لعبها ورقة مخاوف واشنطن من الحرب الباردة، حيث أكّدت على أن الشيوعيين الإيرانيين كانوا يؤيدون نظام محمد مصدِق بقوة وأن انتصاراً شيوعياً في المستقبل لم يعد أمراً مستبعَداً. تمّ عزل الرجل العجوز من الحُكم ووضعه تحت الإقامة الجبرية. ومع إزاحة البديل القومي العِلماني، حصل الشاه على كامل الحرية لتسيير البلاد كما يشاء بشرط أن يظل راعياً للمصالح الأمريكية في المنطقة. بالفعل، كان الشاه راعياً لها. وكان هدفه الرئيس هم الشيوعيون الإيرانيون والمؤيدون لهم. فأصبحت الاعتقالات الكثيفة والتعذيب من العلامات المميِّزة لنظام الشاه. خلال خمسينيات القرن الميلادي العشرين، هربَ آلاف الطلبة والمثقفين الإيرانيين إلى المنفى. ثم جاء الشاه في الستينيات ب «الثورة البيضاء»، التي أدخلت «إصلاح الأراضي» ومنحت النساءَ حق التصويت. عارض الخميني كلا الإجراءيْن، وكان وراء أحداث الشغب في 1963م، ممّا أدى إلى طرده إلى خارج البلاد. هكذا بالحرف. تمّ نقله إلى الحدود مع العراق ثم ألقي به في الجهة الأخرى منها. إنه منفيّ عرف كيف يستغل إبعاده القسري لصالحه. الآمال التي ولّدتها ثورة 1979م في أوساط العديد من المثقفين والطلبة الليبراليين واليساريين وشريحة من الحركة الدينية نفسها سرعان ما دُمِرت. لقد تمكن النظام الجديد من الوصول إلى السلطة لأن الشعب كان قد ضاق ذرعاً بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إلا أن الآمال في أن يلفّ المدّ الراديكالي حول رجال الدين لم تكن في محلها. وبينما أدى جزء من اليسار ثمناً باهظاً مقابل فشله في إصدار ولو تحذير واحد مما قد تستتبعه دكتاتورية رجال الدين، قامت جماعات أخرى كانت قد رفعت شعار «ماتت الثورة، عاشت الثورة» بتعبئة الشعب ضد رجال الدين. كان شيوعيّو حزب «التودا» والليبراليون العِلمانيون المنضَوون تحت الجبهة الوطنية غائبين عملياً عن الحركة الجماهيرية. ولكن هذا كان مشكلا، وليس امتيازاً كما تمنّت بعض جماعات اليسار المتطرف. كان هذا يعني أن الملالي وحدهم هم الذين يشكلون قوة منظمة داخل الحركة. أصبحت إيديولوجيتهم هي المهيمِنة، وقرّر فوزهم مصيرَ كل أولئك الذين كانوا يتخيلون بأنهم يناضلون من أجل الحقوق الديموقراطية، ضد قمع الأقليات الوطنية والدينية، ومن أجل حقوق المرأة. وقد أثار انهيارُ دولة بهلوي المُمركزَة طموحات الاستقلال الذاتي، فنشأت حركات تنادي بالحكم الذاتي في خُوزستان وكردستان وبَالوشستان وأذربيجان. لكن رجال الدّين حاربوهم بقوة تفوق الحماسة الوحدوية لدى النظام القديم. في أعقاب الثورة، شهدت إيران ازدهار الديموقراطية وانتشار المناشر والكتب والجرائد واللقاءات العمومية والنقاشات واللجان. وكان حضور الإصدارات، إن لم نقل كلماتها، يمثل تحدّياً لنظرة رجال الدين إلى الثورة الإسلامية و«الحق الربّاني» المخوَل لهم في الحكم. لذا قرّر رجال الدين القضاء نهائياً على هذا التهديد، وساعدتهم على ذلك التصريحاتُ اللانقدية التي كانت تصدُر عن العِلمانيّين. لقد كانت التدخلات الانتهازية لحزب «التودا» بعد فبراير 1979م عديمة الجدوى، حتى لا ننعتها بما هو أسوأ. ففي محاولته لتشكيل جبهة شعبية بمعية رجال الدين، جلب هذا الحزب على نفسه الخزي والعار. في شهر مارس، أصدر الخميني فتوى تأمُر النساء بالتحجّب. وفي غضون أربع وعشرين ساعة، خرج عشرون ألفاً من النساء للتظاهر ضد الفتوى. سلخ حزب «التودا» «النساء البورجوازيات» شر سلخة لأنهن سِرن في الشوارع ضدّ الخميني. كما انتقد بشدة الليبراليين، حلفاءه السابقين في «الجبهة الوطنية»، بسبب دفاعهم عن حرية الصحافة. وانتقد كذلك الأكراد والتركمان بلذاعة لكونهم قاوموا رجال الدين. كما أن الفِرق الموجودة في أقصى اليسار تخلفت هي الأخرى عن الدفاع عن النساء «المعطَرات». في القريب، سوف يتعرض الجميع للتدمير. في 1981م، تمّ اعتقال نشطاء من اليسار الراديكالي ومن المجاهِدين. وسرعان ما بدأت السجون تكتظ، أكثر حتى ممّا كانت عليه في زمن الشاه. في 1983م، اعتقِل زعماء وأعضاء من حزب «التودا»، مثلما تمّ اعتقال النساء واليسار الثوري والأكراد والتركمان، الذين كان يُسخَر من نضالهم. التعذيبُ بشتى أنواعه والعقابُ الجسدي الممنوعان في إيران من بدايات عشرينيات إلى أواخر ستينيات القرن الميلادي العشرين كانا قدْ رجعا خِلال حُكم الشاه. وقد أضحت الشرطة السرّية، المعروفة ب «السافاك»، مشهورة في العالم بأسْره، حيث تنسب إليها منظمة العفو الدولية في كل سنة انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وكرامته. وقد عانى على يدِ نظام الشاه السجناءُ الدينيّون والشيوعيون معاً، الذين كانوا يتقاسمون في بعض الحالات نفس الزنزانة. والآن هاهم رجال الدين يستعملون نفس الأساليب ضد «أعدائِهم».