إذا أراد أي مراقب أن يستقرئ خريطة الأحداث المتوقعة في المستقبل اللبناني، القريب منه أو البعيد، فإن عليه أن يتابع ما يصدر عن المملكة العربية السعودية، ووزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل على وجه التحديد، من مواقف وتصريحات، بسبب النفوذ الكبير الذي تتمتع به، وعلاقاتها التحالفية الوثيقة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، واطلاعها بالتالي على أدق تفاصيل ما يجري طبخه في دهاليزها من مخططات لهذا البلد المنكوب. فعندما يؤكد الأمير سعود الفيصل، في لقاء مع قناة «العربية»، أن الوضع في لبنان «خطير»، وأن بلاده رفعت يدها عن الوساطة التي أجرتها بالاشتراك مع سورية لحل الأزمة المتعلقة بالمحكمة الدولية، بشأن اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري وتداعياتها، فإن علينا في هذه الحالة، وبناء على هذه التصريحات الواضحة من رجل محسوب على معسكر الصقور في الأسرة الحاكمة، أن نتوقع الأسوأ، وهذا الأسوأ يمكن أن يتبلور في ثلاثة احتمالات: الأول: تفجير فتنة طائفية، سنية شيعية، في لبنان تتطور إلى حرب أهلية توفر الذرائع لتدخلات عسكرية خارجية، وعمليات استقطاب داخلية. الثاني: إقدام إسرائيل على شن عدوان كبير على لبنان مستغلة تدهور الأوضاع الأمنية، أو استخدام القرار الظني للمحكمة الدولية بتجريم «حزب الله» من خلال اتهام عناصر فيه بالوقوف خلف جريمة الاغتيال كضوء أخضر، أو ذريعة لإنهاء وجود المقاومة في لبنان بالقوة العسكرية. الثالث: تقسيم لبنان إلى كانتونات، مستقلة أو شبه مستقلة، أو دول ميكروسكوبية على غرار «مونت كارلو» أو «ليختنشتاين» أو «آيل إف مان» في الجنوب البريطاني وهكذا. الأمير سعود الفيصل لا ينطق عن هوى عندما يقول «إذا وصلت الأمور إلى الانفصال، وتقسيم لبنان، انتهى لبنان كدولة تحتوي على هذا النمط من التعايش السلمي»، فهذا يعني أن هناك مخططا للتقسيم مطروحا كأحد الحلول، ووفق حدود المعسكرين المتصارعين: تيار الرابع عشر من آذار بزعامة السيد سعد الحريري وتيار المقاومة أو المعارضة بزعامة «حزب الله». ولا نعرف ما هي المعايير التي ارتكز عليها الأمير سعود الفيصل في حديثه عن التقسيم، فهل يقصد فصل الجنوب ذي الغالبية الشيعية عن الشمال حيث الغالبية السنية والمارونية، وفي هذه الحالة يظل من الجائز التساؤل عن الجيوب المسيحية والدرزية والسنية، مثلا؟ وهل ستتم عمليات تطهير عرقي، وترحيل قسري لغير المرغوب فيهم في ظل التغول الطائفي الذي يطل برأسه ويجد تشجيعا من الخارج العربي والغربي؟ الخريطة السياسية الحالية في لبنان تختلف كليا عن نظيرتها في السبعينيات عندما اشتعلت نيران الحرب الأهلية، فقد كان هناك معسكران متقاتلان، أحدهما إسلامي «تقدمي» مدعوم من المقاومة الفلسطينية يضم السنة والشيعة والدروز، والآخر مسيحي صرف مع وجود بعض الجيوب الصغيرة جدا «المحايدة» أو «المعارضة». الآن الصورة مختلفة، فهناك سنة مع السيد الحريري وسنة ضده، وهناك تيار ماروني مسيحي قوي مع معسكر المقاومة بزعامة العماد ميشال عون، ويضم السيد سليمان فرنجية وآخرين، مثلما هناك شيعة أيضا ينضوون تحت عباءة تيار الرابع عشر من آذار المناوئ ل«حزب الله» و«حركة أمل» بزعامة السيد نبيه بري، رئيس مجلس النواب. لبنان أصغر بل وأعقد من أن ينقسم إلى دول أو مدن الطوائف والمذاهب، اللهم إذا كانت هناك مخططات أمريكية لا نعرفها، فمن قسّم السودان وفتّت العراق ومزّق الأراضي المحتلة في فلسطين إلى جيبين متنازعين، يستطيع أن يغرس سكينه في الجسم اللبناني ويقطع أوصاله بتواطؤ داخلي ودعم عربي، مستغلا حالة الانهيار المهين التي تعيشها الأمة العربية حاليا. فالوساطة السورية السعودية، التي أكد الأمير سعود الفيصل وفاتها، لم تكن موجودة أصلا، وإن وجدت فإنها لم تكن جدية، وإن كانت جدية فإن جديتها تنبعث من حسن نوايا أصحابها، وليس من رغبة واشنطن وتأييدها لها، وإن أيدتها واشنطن فذلك لاستخدامها كحقنة تخدير أو «رضاعة صناعية» لإلهاء اللبنانيين وتهدئة الأوضاع في بلادهم وكسب أطول فترة من الوقت ريثما تتهيأ الظروف الملائمة لإصدار القرار الظني عن المحكمة الدولية في الموعد المقرر. فليس صدفة أن يتم الإعلان عن انتهاء الوساطة السعودية السورية فجأة وبعد انتهاء عطلة أعياد الميلاد المجيدة، وليس صدفة أيضا أن يتكرس «الطلاق» السوري السعودي بعد اجتماع رباعي في جناح العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز في نيويورك وبحضور الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والسيدة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، علاوة على السيد سعد الحريري، رئيس تجمع الرابع عشر من آذار ورئيس الوزراء في حينه. وليس من قبيل الصدف أيضا أن يقدم إيهود باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي، على الانسحاب من حزب العمل وتكوين تكتل سياسي جديد يعزز تحالفه مع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، وأفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية، ويؤسس ل«حكومة حرب» في إسرائيل. ما يجمع نتنياهو وباراك هو الإيمان بحتمية شن حرب لتدمير «حزب الله» في لبنان وتكون «مصيدة» لجر سورية أو إيران أو الاثنتين معا، وبما يؤدي إلى توفير الذرائع لتوسيع هذه الحرب وتوريط الولاياتالمتحدة وأوربا فيها إلى جانب إسرائيل والقوى المتحالفة معها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في لبنان. يؤلمنا أن نقول إن لبنان يتجه بسرعة نحو الحرب، لأن احتمالات السلام تتراجع إن لم تكن قد تبخرت كليا، مما يعني أن الجهود الدؤوبة التي يبذلها المثلث السوري التركي القطري حاليا تواجه مصاعب كثيرة، ولا نبالغ إذا قلنا إن تصريحات الأمير سعود الفيصل، التي تزامنت مع قمة دمشق الثلاثية، كانت تهدف إلى إجهاض هذه الجهود أو تقليل فرص نجاحها في أفضل الأحوال. ما يطمئننا، في وسط ظلام المؤامرات، حالك السواد، أن المقاومة اختارت الصمود والدفاع عن لبنان وعروبته في مواجهة أي عدوان إسرائيلي، بالرجولة التي شاهدناها أثناء حرب صيف عام 2006، فالحروب الإسرائيلية لم تعد سهلة، أو طريقا من اتجاه واحد في مواجهة أنظمة منهارة فاسدة جعجاعة، وإنما أصبحت حروبا في مواجهة شعوب بات أبناؤها يلجؤون إلى حرق أنفسهم لإشعال فتيل ثورات تنهي أنظمة القمع والفساد والظلم.