تطرح مجزرة الإسكندرية الأخيرة «قضية الفوضى» الخلاقة التي انتشرت في منطقتنا بتخطيط وإعلان مسبق من جماعة المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وإن كان هؤلاء قد غادروا الحكم، فلا شيء يوحي بأن أفكارهم وخططهم قد رحلت كلها معهم. لنتذكر معا كيف اشتعلت الفتنة الطائفية في العراق على نطاق واسع بعد ضرب المرقدين. ولنتذكر المؤشرات التي ظهرت منذ اللحظة الأولى للانفجار، حيث تبين أنها كلها تصب في مصلحة المحتل. فقد اتجه التيار الصدري الذي كان يقاوم الاحتلال إلى الاقتصاص الجماعي من البيئة التي احتضنت المقاومة ورعتها منذ اللحظة الأولى. وقد انخرط الصدريون من بعد في اللعبة السياسية تحت الاحتلال. ونشأت في الجهة المقابلة مجالس «الصحوات» بإشراف الجنرال باتريوس لحماية البيئة المذكورة. وتخلص المحتل من ضغط المقاومة اليومي الذي كان يقدر بعشرات العمليات العسكرية الناجحة. ومع أن المقاومة استمرت بعد «المرقدين»، فإنها كانت وما زالت محاطة بفتنة طائفية مستمرة تحد من قدرتها على إلحاق أذى أكبر بالغزاة وأعوانهم. وإذ نجحت الفتنة الطائفية في العراق وحققت أغراض المحتل، فقد أريد لها أن تصبح شاملة، وذلك عبر التحذير من «الهلال الطائفي» الشهير، وبالتالي تعبئة العرب والإيرانيين ضد بعضهم البعض والتخلص من ضغط الطرفين معا. وكان يراد من تعميم الفتنة بين المسلمين أيضا إضعاف تيار الممانعة والمقاومة العربي وإشعال النار في حقوله عبر تكرار السيناريو الطائفي العراقي. وقد جرى اختبار محدود لهذا السيناريو في لبنان في مايو عام 2008، وتبين من خلاله أن الحالة اللبنانية ليست رخوة إلى الحد الذي تبدو عليه. بيد أن فشل الاختبار لم يردع تماما المعنيين بالأمر، فها هو جيفري فيلتمان، نائب وزيرة الخارجية الأمريكية، يعد أنصاره اللبنانيين بفتنة جديدة من خلال المحكمة الدولية الخاصة بقضية الرئيس الراحل رفيق الحريري. والراهن أن «الفتنة» هي استمرار ل»الفوضى الخلاقة» التي تنطوي على خلخلة البيئة المحيطة بإسرائيل والعراق المحتل وإشعال النار في نواحيها المختلفة حتى تجابه بعضها البعض وتكف عن مجابهة إسرائيل والاحتلال الأمريكي. وإذ تضعف الفئات المتجابهة بفعل الفتنة وتصبح على شفير الانهيار، فإنها تلجأ -كل من جهته- إلى طلب حماية وعطف المحتل، وبالتالي الخضوع لإملاءاته ورغباته، ومن ثم تغرب شمس الممانعة والمقاومة والكرامة الوطنية والقومية عن فضائنا العربي ويسود المحتلون وعملاؤهم سيادة مطلقة... إلخ. ما من شك في أن المجازر التي ضربت مسيحيي العراق هي استمرار لفتنة المرقدين، لكن هذه المرة لتحقيق غرضين كبيرين: الأول هو الانتقام من شريحة عراقية كانت مؤيدة بقوة للنظام السابق وتشكل جزءا أساسيا من مشروعه القومي الاندماجي، والغرض الثاني يقضي بنفخ النار في النسيج الاجتماعي العربي الذي يشكل المسيحيون جزءا معتبرا من مكوناته، فقد تعود المحتلون عبر التاريخ أن يجدوا في منطقتنا العربية من يتعاون معهم من بين الأقليات الطائفية، إلا أن المحتل الإسرائيلي والأمريكي أخفق في تجنيد هذه الجماعات، فجعلها كبش محرقة في وقت يرعى فيه انفصال جنوب السودان على أساس طائفي بعد أن استثمر طويلا في الحرب الأهلية السودانية للوصول إلى هذا الهدف. تندرج مجزرة الإسكندرية في هذا السياق، فهي تأتي بعد الاحتقان الانتخابي الأخير وعشية استفتاء جنوب السودان لتقول للسودانيين الجنوبيين المترددين في تأييد الانفصال: أنظروا إلى مجزرة الإسكندرية وانظروا إلى مجازر المسيحيين في العراق، فالوحدة تعني هذه المجازر أما الانفصال فهو الحل، وبالتالي فإن حمايتكم تكمن في التعاون مع المحتل وليس في الابتعاد عنه أو في الوحدة الوطنية في مجتمعاتكم. إن التصدع الذي وقع في العراق بعد تفجير المرقدين، وامتد من بعد إلى العالم العربي، لم يقتصر فقط على الفئات الدينية المختلفة، فهو امتد إلى النسيج الديني الواحد، حيث شاهدنا بأم العين ومن خلال البث المباشر آثار التصدع في المجتمع الأردني إثر مباراة لكرة القدم بين فريقين محليين، وشاهدنا بأم العين التصدع الجزائري المصري عشية كأس العامل الأخير، وشاهدنا بأم العين التصدع بين مناطق جزائرية وأخرى مغربية ويمنية، ووسط هذا الجو الخانق ينطلق المكتوم إلى العلن ويفلت المكنون من عقاله وينحسر الصبر وينزل الناس إلى الشارع كما وقع ويقع في تونس مؤخرا. أغلب الظن أن الوقت ما زال متاحا لطرد هذا الكابوس الذي يضربنا في الصميم من تكويننا الاجتماعي والتاريخي، ذلك أن الرد على الفوضى الخلاقة يكون بالمزيد من المقاومة والمزيد من الممانعة والمزيد من التمسك بالكرامة. وإذا كان صحيحا أن الناس يقيمون الاعتبار الأول للخبز في حياتهم اليومية، فإنهم لا يعيشون بالخبز وحده بل ربما يصبرون على الجوع والعطش إن كانوا يظنون أن الكرامة تنتظر في آخر النفق. هذا ما راهن عليه الفقراء في جنوب لبنان، وكسبوا الرهان، وهذا ما ينبغي أن نراهن عليه جميعا، فإن كانت الفوضى الخلاقة تأتي لنا بالموت والدمار والذل فعلام نستسلم لمفاعيلها؟ بل لا عذر لنا في التصدي لها ولو ب»النبابيت» كما يقول المصريون في لحظاتهم الوطنية الصعبة..