عاش العالم العربي على وقع هجوم استعماري شرس، خلال مرحلة القرن التاسع عشر، وكان ذلك نتيجة مباشرة للطفرة الصناعية القوية التي عاشتها الرأسمالية الغربية، حيث كان البحث عن موارد طبيعية جديدة للتصنيع، وكذلك عن أسواق جديدة لتصريف الإنتاج الصناعي. غير أن هذا العامل لا يفسر لوحده الأطروحة الاستعمارية، بل تنضاف إليه عوامل أخرى ترتبط، في الغالب، بالانهيار الشامل الذي كان يعاني منه العالم العربي بمشرقه ومغربه. وقد كان المغرب من ضمن الدول التي عرفت هذه الموجة الاستعمارية في وقت مبكر. فمنذ هزيمة «إيسلي» سنة 1844 أمام الجيش الفرنسي، ومرورا بهزيمة «تطوان» سنة 1860 أمام الجيش الإسباني، عاش المغرب على وقع حركة استعمارية أوربية، حيث تم تقسيمه بين الفرنسيين والإسبان، وفي نفس الآن عاشت مدينة طنجة على وقع حماية (استعمار) دولية مشتركة. وقد عبر المغرب، دولة وشعبا، خلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخه، عن مواقف شجاعة وحاسمة ضد هذا الهجوم الاستعماري الفرنسي والإسباني، وتجسد ذلك في حركات مقاومة اكتسحت كل التراب الوطني، من الشمال إلى الجنوب، وخلال سنة 1956 تم فرض السيادة المغربية على نسبة كبيرة من التراب الوطني. لكن ورغم هذه المجهودات الجبارة التي بذلت، بقيت بعض الثغور المغربية محتلة من طرف الاستعمار الإسباني، سواء في الشمال أو في الجنوب (سبتة، مليلية، الجزر الجعفرية، الصحراء الجنوبية). وهذا ما دفع المغرب إلى مواصلة النضال السياسي، من أجل إنهاء آخر بؤر الاستعمار. وضمن هذا المسار النضالي، نظمت مسيرة شعبية سلمية، من طرف مدنيين متطوعين سنة 1975 (المسيرة الخضراء)، تم من خلالها اختراق الحدود الاستعمارية الوهمية التي تفصل المغرب عن امتداده الصحراوي. وقد نجحت الخطة إلى أبعد الحدود، وتم فرض السيادة المغربية على الصحراء، ضدا على الإرادة الاستعمارية الإسبانية التي كانت تسعى إلى عزل المغرب في حدود ضيقة، عبر اقتطاع أجزاء من ترابه. فعبر فرض الهيمنة الاستعمارية على مدينتي سبتة ومليلية، تم إبعاد المغرب عن جواره الأوربي، وذلك عبر التخطيط لجعل المدينتين كمنطقة عازلة تفصل المغرب عن أوربا. ومن خلال فرض الهيمنة الاستعمارية على الصحراء المغربية، كان السعي إلى فك الارتباط بين المغرب وامتداده الإفريقي. لقد تمكن المغرب، إذن، من خلال تنظيم المسيرة الخضراء، من تحطيم جزء كبير من هذا المشروع الاستعماري الذي كانت تقوده إسبانيا، بهدف إطالة عمر الهيمنة الاستعمارية على الجار الجنوبي. ولعل هذا الحدث الكبير كان كافيا لإثارة غرائز الاستعمار الإسباني ودفعه إلى التخطيط لرد الصاع صاعين، وذلك من خلال العمل على تحطيم هذا المشروع الوطني المغربي الكبير الذي دفع أكثر من 350000 متطوع مغربي، من كافة جهات الوطن، إلى المغامرة بالسير بين الكثبان لاسترجاع رمالهم الذهبية التي تنتهك حرمتها من طرف الاستعمار الإسباني الغاشم . ولذلك فقد تم التركيز، بداية، على زرع بذور الانفصال بين سكان الصحراء المغاربة، عبر دفعهم إلى الدفاع عن الجهة التي ينتمون إليها -وهي جهة مغربية بمعايير التاريخ والجغرافيا- باعتبارها منطقة منفصلة عن المغرب، ولها خصوصياتها التاريخية والجغرافية! وتبدو لمسة الاستعمار الإسباني جلية في نسج فكرة الانفصال لدى المواطنين المغاربة الصحراويين، والذين تلقوا دعما لا محدودا سياسيا وعسكريا وماليا، مكنهم من إخراج الفكرة إلى الوجود. وقد رافق هذا الدعمَ الاستعماري الإسباني دعمٌ إيديولوجي عربي، من طرف الأنظمة العربية، من مصر جمال عبد الناصر وعراق صدام وسوريا الأسد وليبيا القذافي، غير أن الدعم الحقيقي، إن لم نقل الاحتضان الكامل، كان -وما يزال- من طرف النظام الجزائري الذي احتضن الانفصال الصحراوي منذ الولادة الأولى ودعمه بالواضح والمباشر، بناء على اعتبارات فجة لا تستجيب لأبسط معايير المنطق. فقد كان صراع هذه الأنظمة مع الملكية المغربية يمر عبر جبهة البوليساريو، باعتبارها تجسد حلم الدولة الاشتراكية المقتطعة من الجسد المغربي الذي لم يستجب للطموحات الإيديولوجية للدكتاتورية الاشتراكية العربية. وهكذا، حضرت جبهة البوليساريو في جهة الصحراء المغربية كسلاح استعملته هذه الأنظمة في صراعها الإيديولوجي. هكذا،إذن، انسجمت طموحات الحركة الاستعمارية الإسبانية مع طموحات الحركة الإيديولوجية الاشتراكية، ونتيجة لهذا الانسجام ولدت ونشأت جبهة البوليساريو، تحت الرعاية الاستعمارية والإيديولوجية، لهذا التحالف الخفي بين المعسكرين. وقد تم خلال هذا الصراع استغلال المؤسسات الدولية، عبر العمل على تدويل قضية الصحراء باعتبارها تصفية استعمار، وذلك بدعم لا محدود من المعسكرين الداعمين لأطروحة الانفصال، وبذلك تمكنت الجبهة الانفصالية من خوض معارك سياسية وعسكرية بالوكالة ضد المغرب، مدعومة في ذلك من طرف الاستعمار الإسباني ومن طرف الأنظمة الدكتاتورية الاشتراكية العربية. وطوال مراحل الصراع، التي دامت أكثر من ثلاثة عقود، ظل المغرب ملتزما بالشرعية الدولية، التي أثبتت بالوثائق العلاقات التاريخية والجغرافية والحضارية الوطيدة التي تربط المغرب بصحرائه. ولعل هذا هو ما عبر عنه المغرب بطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة وإلى الحكومة الإسبانية في 23 شتنبر1974، لإحالة ملف الصحراء على محكمة العدل الدولية في لاهاي، لتبدي رأيا استشاريا لتعزيز مطالبته بحقوقه التاريخية في الإقليم. وبعد أن وافقت الجمعية العامة على الطلب المغربي، أحالته على المحكمة الدولية المذكورة التي عقدت 27 جلسة علنية من 25 يونيو إلى غاية 30 يوليوز 1975، وأعلنت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري في 16 أكتوبر 1975 في 60 صفحة، بعد تفكير عميق وجاد تناول، بالفحص والتدقيق، كل حيثيات الموضوع -في حدود الوثائق المقدمة إليها- مرفقا بالكثير من الآراء الشخصية للقضاة. وفي تناول المحكمة الدولية لموضوع السيادة على أرض الصحراء، غداة استعمارها من طرف إسبانيا (والذي حددته المحكمة اعتبارا من سنة 1884)، خلصت (المحكمة) إلى أن الصحراء قبل الاستعمار الإسباني لم تكن أرضا بلا سيد، بل إنها كانت مأهولة بالسكان الذين كانوا، على الرغم من بداوتهم، منظمين سياسيا واجتماعيا في قبائل، وتحت سلطة شيوخ يقومون بتمثيلهم. وإسبانيا نفسها لما أقامت (حمايتها)، تذرعت باتفاقات مبرمة مع الشيوخ المحليين. وبخصوص القضية الثانية، المتعلقة بالروابط القانونية التي كانت تربط المنطقة المذكورة والمملكة المغربية، فإن المحكمة حددت، «كروابط قانونية»، كل الروابط التي يمكنها أن تؤثر على السياسة التي يجب اتباعها لتصفية الاستعمار الجاثم على الصحراء. وحول السؤال المحدد المتعلق بالروابط مع المملكة المغربية، أوضحت المحكمة أنها تأخذ بعين الاعتبار: - أن المملكة المغربية تؤكد وجود روابط سيادة بالصحراء، نابعة من حيازة تاريخية للإقليم. - أنها وضعت في الحسبان الهيكلة الخاصة للدولة المغربية في تلك الحقبة التاريخية. وبعد أن فحصت الأحداث الداخلية (تعيين القادة، جباية الضرائب، المقاومة المسلحة وحملات السلاطين،...) التي قدمها المغرب كإثباتات لسيادته التاريخية على الصحراء، والأحداث الخارجية (معاهدات، اتفاقات، ومراسلات دبلوماسية) التي اعتبرها المغرب تأكيدا لاعتراف دولي من حكومات أخرى بتلك السيادة التاريخية، توصلت المحكمة إلى وجود علاقات تبعية بين قبائل المنطقة والسلطان المغربي، الذي يمثل سيادة الدولة المغربية على الصحراء. إن هذه الثوابت التاريخية، التي اعتمدتها المحكمة الدولية لإثبات العلاقات التاريخية والحضارية التي تربط المغرب بصحرائه، على مدى قرون من الامتداد الحضاري المغربي، هي سلاح المغرب الوحيد في معاركه ضد الاستعمار الإسباني وضد بقايا الديكتاتورية الاشتراكية العربية، مجسدة في الجزائر، لأن المعركة القائمة -حقيقة- هي ليست البتة ضد مرتزقة البوليساريو، وإنما ضد من يخدمون مصالحه الاستراتيجية في المغرب. ولعل هذا هو ما وعاه المغرب مبكرا، من خلال طرح ملف الصحراء ضمن محادثاته الثنائية مع إسبانيا، وكذلك من خلال ربط هذا الملف بالعلاقات الثنائية مع الجزائر، وكذلك من خلال طرح قضية الصحراء كقضية محورية في أي تقدم محتمل في ملف اتحاد المغرب العربي، وذلك لأن المغرب لا يمكنه أن يدخل الاتحاد المغاربي وهو فاقد لجزء من ترابه الوطني الذي تسعى الجزائروإسبانيا إلى تحويله إلى دولة (وهمية) تحصل نفسها على عضوية الاتحاد المغاربي. إن مسار المفاوضات بخصوص قضية الصحراء المغربية، يجب ألا ينحرف عن هذا الطريق، فالمغرب يعرف الخصم الحقيقي الذي يعرقل أي حل محتمل للقضية، وهو قطعا ليس جبهة البوليساريو، التي لا تمتلك قراراتها الخاصة، بل القضية أكبر من ذلك بكثير.. إنها قضية صراع استراتيجي حول منطقة غنية بالثروات الطبيعية، تسعى إسبانيا ومعها الجزائر إلى استغلالها، من خلال دعم كيان سياسي وعسكري ضعيف، يحمي مصالحهما، طمعا في كسب حمايتهما ودعمهما.