تخوض الحكومة الفرنسية معركة مصيرية مع مواطنيها المضربين من أجل إلغاء قانون التقاعد، وتراهن على الوقت من أجل كسب هذه المعركة معتقدة أن المتظاهرين سيتراجعون وستتناقص أعدادهم ابتداء من السبت المقبل، وهو اليوم الأول في العطلة الفصلية الأولى في فرنسا، في حين يراهن المضربون على التأييد الواسع الذي تحظى به حركتهم لدى قطاعات مختلفة من الرأي العام الفرنسي. وهم محقون في رهانهم، ذلك أن استطلاعا للرأي العام، نشرته مؤسسة «إيفوب» الرصينة، يفيد بأن 71 في المائة من الفرنسيين يعتقدون بعدالة قضية المضربين، وأكثر من 80 في المائة من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة يؤيدون الإضراب، هذا الأخير الذي يحظى أيضا -حسب الاستطلاع دائما- بتأييد 90 في المائة من مناصري اليسار و66 في المائة من مناصري «التجمع من أجل حركة شعبية»، الحزب الحاكم في فرنسا. وإذا كان احتدام النزاع بين الحكومة والمضربين يعزز احتمالات المجابهة المفتوحة ويضعف فرص المساومة والتفاوض، فإن رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي يعتبر النجاح أو الفشل في إقرار هذا القانون بمثابة انعطاف في حياة الفرنسيين نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وفي الحالتين يمكن لساركوزي أن يحصد النتائج، سلبا أو إيجابا، عبر ضمان انتخابه لولاية ثانية أو عبر تفكيك الفريق الذي يدعمه ويلتف حوله، وبالتالي خسارته فرصة العودة ثانية إلى الإليزيه. وللإحاطة برهانات هذه المعركة، لا بد من الإشارة إلى أن إصلاح نظام التقاعد يوفر للحكومة هامشا كبيرا للمناورة الاقتصادية في ظل أزمة الأسواق العالمية، في حين يرى المضربون أن القانون الجديد يضر بمصالحهم في الصميم لجهة تأخير سن التقاعد إلى 62 سنة بدلا من سن الستين حسب القانون الحالي. وهذه الخسارة يعتبرها المضربون خطيرة للغاية لأنها تحرمهم من الإفادة من سنتين في حياتهم القصيرة بعد التقاعد، ناهيك عن كونهم يعتقدون أن القانون الجديد لا يوفر وظائف جديدة للشبان لأنه يؤخر خروج فئات من سوق العمل لمدة سنتين، ولعل هذا ما يفسر التفاف الشبان بأكثريتهم الساحقة حول المضربين. والراجح أن الرئيس الفرنسي لا يريد التنازل في هذه القضية مفترضا أنها قد تفضي، في أسوأ الاحتمالات، إلى إقالة الحكومة ورئيسها الذي يمكن أن يتحمل مسؤولية فشل المشروع، وبالتالي يصبح أقل حظا في المنافسة على الرئاسيات المقبلة، ويمكن أيضا أن يرتد الناس ضد المتظاهرين جراء تعطل المواصلات أو النقص في المحروقات أو أعمال العنف، وفي هذه الحال يمر القانون ويخسر المضربون ومعهم اليسار. بيد أن الرئيس الفرنسي يناور -حسب خصومه- على حافة الهاوية، ذلك أن اتساع الاحتجاج نحو ضواحي المدن يمكن أن يؤدي إلى عصيان مدني قد لا تنجح الوسائل الأمنية في وقفه، الأمر الذي يذكر بانتفاضة مايو 1968 التي ما كان أحد يحسب اندلاعها عند انطلاق إضراب جامعة السوربون قبل شهر من الانتفاضة.. في هذه الأيام، لا تبدو النار بعيدة للغاية عن الزيت في فرنسا، والسؤال هو: هل تنجح الحكومة في الحؤول دون صب الزيت على النار أم ينجح المضربون في التسبب في حريق يطيح بالحكومة ويضعف فرص الرئيس في ولاية ثانية؟ الجواب ستحمله الأيام القلية المقبلة التي ستكون، دون مبالغة، أياما تاريخية في مجمل حياة فرنسا والفرنسيين وليس في التقاعد حصرا.