تطورت السينما، عادة، في بلدان معينة بشكل منتظم، وانطلاقا من تصور جمالي -فيلمي واضح المعايير والسمات، يلفي المخرج نفسه منذغما فيه أو متوفرا على العديد من سمات التشابه معه. ضمن هذا السياق، تندرج التيارات والأجناس الفيلمية المعروفة، كالموجة الجديدة في فرنسا والواقعية الجديدة الإيطالية، أو موجة السينما الجديدة البرازيلية، عند المخرج غلوبير روشا، أو الأجناس المكرَّسة في السينما الهوليودية» ك«الوِسْتيرن»، الفيلم السياسي، أفلام الحرب، أفلام العصابات والعنف... إلخ. وقد «تموقَف» أغلب المخرجين في هذه البلدان مع هذه التيارات والأجناس أو ضدها، لأنها صارت بمثابة رأسمال فني سينمائي يشتغل عليه المخرجون السينمائيون، يستمدون منه بعض أدوات اشتغالهم السينمائي ولغتهم الفيلمية، ويجددونه أو يعيدون صياغته. نفكر هنا، تحديدا، في أكيرا كوروساوا وإعادة صياغته لأفلام الفروسية، وفي كوانتن تارانتينو، في أفلامه «بولْب فيكشن» وفي الجزأين الأول والثاني من «ّكيل بيل»... إلخ. المراد تأكيده، هنا، هو أن الإنتاج السينمائي في بلد أو مجتمع ما صيرورة تطور تمر بمراحل يسهم فيها كل مخرج على حدة، بإبداعاته ولغته وتصورته الجديد، أي أن التراكم السينمائي التدريجي يخلق، بالضرورة، تميزا في الطرح الفيلمي. ويمكن ملاحظة المسألة ذاتها أيضا في السينما الكورية الجنوبية أو التايوانية أو التايلاندية. لقد أصبح مشروعاً طرحُ سؤال التطور والتميز في السينما المغربية، بعد التراكم الكمي الذي تحقق على مستوى المُنجَز الفيلمي وبعد توفر الكثير من الشروط المساعدة على ذلك.فهل تحقق ذلك؟.. الملاحَظ أن المخرجين السينمائيين المغاربة هم بمثابة جُزُر متباعدة عن بعضها البعض، أنوية معزولة ومجزَّأة، إذ لا يلمس المتتبع السينمائي أي تواصل، انسجام أو تكامل بين التجارب الفيلمية، حيث إن كل مخرج على حدة يحاول تحديد مرجعيته السينمائية، بعيدا عن الآخر، كأنه عالم قائم بذاته. بل إن المرء لا يعثر على هذا الانسجام والتكامل حتى داخل تجربة مخرج سينمائي مغربي بعينه!.. إن فيلموغرافيا الكثير من المخرجين لا تكاد نلمس فيها نوعا من الاستمرارية في لغة الإخراج السينمائي وأدواته وموضوعاته، حيث نجد نوعا من التشتت الفني والانتقال من موضوع إلى آخر، دون أدنى مبرر. بمجرد ما يخرج أحدهم فيلما عن موضوع المرأة، تجد الآخرين يُخرجون أفلاما حول الموضوع ذاته، والشيء نفسه يمكن قوله عن السبعينيات وسنوات الجمر والرصاص وموضوع اليهود وغيرها من الموضوعات. وكما كان البعض في عقد السبعينيات «يستنسخ» تاركوفسكي أو غيره من المخرجين الروس، بشكل رديء، فإن البعض، اليوم، «يستنسخون» طريقة إخراج الأمريكيين، مثل مايكل مان، سكورسيزي وتارانتينو، بشكل أردأ... لا تعني الاستمرارية السينمائية الخلاقة التي نتحدث عنها التطرق في أفلام عديدة لموضوع واحد لدى مخرج ما، لأن ذلك غير ممكن طبعا، ولكنها استمرارية في الاغتراف من نفس التصور الفيلمي والاشتغال على نفس اللغة والأدوات، كل مرة، مع تطوريها حسب مقتضيات السياق، كما نجد عند جان لوك غودار، السويسري، أو لدى الإخوَيْن دي كوين، الأمريكيين، صاحبي رائعة «لا وطن للمسنين»، إلى جانب روائع أخرى، أو عند فيديريكو فليني، الإيطالي. يعود هذا التشتت والقطائع في مسار كل مخرج على حدة، وفي مجموع المنجز السينمائي المغربي، في اعتقادنا، إلى غياب الوعي بالسينما كخطاب له أدواته وآلياته، أي خيال المعرفة السينمائية التي يجب، بالضرورة، أن تكون مساوقة للإخراج السينمائي. ليس مطلوبا هنا، بالضرورة، أن يكون السينمائيون المغاربة مُنظِّرين، ولكن أن تكون لهم القدرة المعرفية والجمالية على تبرير اختياراتهم الفيلمية وتفسيرها، كما يحدث مثلا في الحوارات مع المخرجين التي تنشرها مجلات النقد السينمائي الشهيرة في فرنسا، مثل «دفاتر السينما» و«بوزيتيف» (Positif). يعتبر هذا الغياب عائقا كبيرا يحول دون أي تطور فعلي أو استمرارية خلاقة ويؤدي -بالضرورة- إلى إقصاء اختيارات سينمائية هامة وحارقة على مستوى الموضوعات. وهنا، لا بد من التساؤل، مثلا: لماذا لم يتمَّ إخراج أفلام كثيرة عما يحدث في العالم القروي، بالرغم من أن له حضورا هاما في بلادنا؟ لأن القليل جدا من المخرجين المغاربة هم الذين تصدوا لهذوا الموضوع.. لماذا تظل سينمانا المغربية مَدِينِيَّة في أغلبها الأعمّ؟ ولماذا تنجز مقاربات فيلمية سطحية لقضايا صعبة، مثل الإرهاب والتطرف والدعارة وانسداد الآفاق والهجرة أو «الحْريك»؟ لماذا لم يبدع لنا مخرج سينمائي فيلما عميقا وإبداعيا عن الدارالبيضاء يليق بكل ما يعتمل من كوارث في هذه المدينة الغول، تماما كما فعل مايْكَلْ مَانْ مع لوس أنجليس، في فيلميْه «Heat» و«collateral»؟ أو سكورسيزي مع نيويورك، في «سائق الطاكسي» و«عصابات نيويورك»، على سبيل المثال لا الحصر؟ ولماذا لا نعثر داخل السينما المغربية على فيلم سياسي حقيقي يتطرق للموضوعات الحارقة، التي ميّزت تاريخَنا المعاصر، مثل معتقل تازمامارت وأحداث 23 مارس في الدارالبيضاء والانتفاضات التي تلتها، والقمع الذي عرفته سنوات الرصاص، تماما كما أبدع ذلك المخرج الفرنسي، ذو الأصل اليوناني، كُوسْتا كافْرَاس في فيلميه «S»، عن فترة حكم الكولونيلات في اليونان و»مفقود» (Missing)، عن انقلاب العسكر في الشيلي؟ يرتبط كل هذا بالوجود القبْلي لسياسة فنية وجمالية للسينما، أي بخلق تراكم نوعي على مستوى التيارات والأجناس الفيلمية، حيث يصير بإمكان أي مخرج مغربي أن يتموقع إزاء تيار أو جنس قائم بذاته وأن يتموقف معه أو ضده، بغرض تجديده. لقد حاول مخرجون القيام بذلك، منذ «وشمة» وحتى «في انتظار بازوليني»، لداوود أولاد السيد، مرورا بأفلام مثل «أليام أليام» و»الحال»، للمعنوني، و»السراب» للبوعناني و»حلاق درب الفقراء»، للراحل المأسوف على غيابه محمد الركاب.. ولكنهم ظلوا إرثا بلا ورثة. هنا بالذات، لا بد أن نهمس في أذن الكثيرين أن التّميُّز النوعي للسينما هو الذي يفرض نفسه على الآخر وفي المحافل الدولية السينمائية، كما حدث مع يوسف شاهين وعباس كياروستامي، الإيراني، ومع المخرج التايواني هُو هَسْيَاوْ هَسْيِِنْ، وأخيرا مع المخرج التايلاندي، الذي فاز بالسعفة الذهبية في دورة مهرجان «كَانْ» الأخيرة. إن السينما الحقيقية، كفنّ وصناعة، لا تُنتَج بالتوظيف الدائم للكليشيهات ولا بالهروب إلى المنطق التجاري الرخيص، الذي يغازل أحاسيس الجمهور العريض ولا بفبركة موضوعات قد لا تهتم بها سوى قلة قليلة من الناس...