رأينا تخريج حديث الافتراق وبعض ما يتعلق بالفرقة الناجية. وفي ما يلي تفصيل لأهم الإشكالات الواردة على ظاهر الحديث: 1 - وجود نصوص وأحاديث أخرى تعارض حديث الافتراق، فمنها: حديث الأمة المرحومة: «أمّتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابُها في الدّنيا الفتنُ والزّلازلُ والقَتلُ»، وهو صحيح. وحديث: «والذي نفس محمدٍ بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة..»، فإذا كان نصف أهل الجنة من المسلمين، وكانت الفرقة الناجية منهم واحدة، والعشرات هالكة، فكيف يكون هذا؟ 2 - إن حديث الافتراق يخبر عن قدر لازم، وهو وقوع الخلاف في الأمة إلى قيام الساعة، ففيم العمل على منع ذلك أو النظر فيه؟ 3 - مبدأ خيرية الأمة: لا شك أن الأمة الإسلامية هي أفضل الأمم عند الله تعالى، وهي خيرها، قال الله سبحانه: «كنتم خير أمّة أخرجت للناس»، وقال جل وعلا: «وكذلك جعلناكم أمّة وسطا». والأحاديث النبوية في هذا المعنى مستفيضة، فكيف تكون الأمم السابقة أفضل منها، حيث إنها أقل اختلافا من هذه الأمة. ذلك أن ظاهر الخبر أن أمتنا أسوأ من الأمم السابقة، لأنها فاقتها جميعا في التفرق والاختلاف، حتى إنها انقسمت إلى فرق أكثر ومذاهب أوسع. أجوبة الإشكالات إذا قلنا إن الزيادة صحيحة، كما هو مذهب الجمهور، يبقى النظر في تأويل حكمه عليه السلام على الفرق الأخرى بالهلاك والنار. وهنا، اجتهد علماؤنا وتوصلوا إلى الإجابات الآتية: 1 - وعيد الفرق المختلفة بالنار كالوعيد على سائر الذنوب: لا يقتضي ذلك خلودا فيها. ذلك أن العلماء لا يُكفرون أهل البدع، بل يجعلونهم من أهل الوعيد، بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعلون قوله عليه السلام: هم في النار، مثل ما جاء في سائر الذنوب، كأكل مال اليتيم، كما قال تعالى: «إن الذين ياكلون أموال اليتامى ظلما إنما ياكلون في بطونهم نارا». وعقيدة أهل السنة والجماعة أن من كان كذلك فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه. ولا يقول أهل السنة -كما تقول فرق أخرى كثيرة- بخلود الفاسق في النار، كان فسقه فسق عمل أم فسق تأويل. يقول الغزالي: «معنى الناجية هي التي لا تعرض على النار، ولا تحتاج إلى الشفاعة، بل الذي تتعلق به الزبانية لتجره إلى النار فليس بناج على الإطلاق وإن انتزع بالشفاعة من مخالبهم». 2 - الهالك قليل: إن بعض الإشكالات السابقة قد تصحُّ لو كان الهالكون هم أكثر الأمة. وهذا غير مسلم، بل الهالكون قلة، والأكثر ناج بإذن الله سبحانه. والقول بنجاة الأكثر يتسق مع الروايات التي جاء فيها أن الناجين هم السواد الأعظم، وأكثر الأمة ومعظم أهل القبلة. يقول الصنعاني الزيدي: «هذه الفرق المحكوم عليها بالهلاك قليلة العدد، لا يكون مجموعها أكثر من الفرقة الناجية. فلا يتم أكثرية الهلاك، فلا يرد الإشكال»، ذلك لأن هذه الفرق -وإن كانت كثيرة- إلا أننا لو أحصينا عدد من ينتمي إليها ويقول بمقالاتها، لألفيناه قليلا.. ومهما كثر في نفسه، فهو بالمقارنة مع مذهب الجمهور والسواد العظيم: قليل وضئيل. 3 - الافتراق محدود في الزمان والمكان: ومن الأجوبة أيضا أن الحديث لا يدل على أن الافتراق الكثير في الأمة قدر دائم ومستمر في الزمان والمكان، بل إذا تحقق ذلك في وقت وفي مكان.. كفى ذلك في صدق الحديث. يقول ابن الأمير الصنعاني رحمه الله: «الإشكال في حديث الافتراق إنما نشأ من جعل القضية الحاكمة به وبالهلاك دائمة، بمعنى أن الافتراق في هذه الأمة وهلاك من هلك منها دائم مستمر من زمن تكلمه (ص) بهذه الجملة إلى قيام الساعة، وبذلك تتحقق أكثرية الهالكين وأقلية الناجين، فيتم الإشكال.. إن قلت: يجوز أن يكون زمن الافتراق أطول من خلافه، فيكون أهله أكثر، فيكون الهالكون أكثر من الناجين. قلت: أحاديث سعة الرحمة وأكثرية الداخلين من هذه الأمة إلى الجنة قد دلت على أن الهالكين أقل. وذلك لقصر حينهم المتفرع عليه قلتهم بالنسبة إلى أزمنة خلافه المتطاولة.. هذا ولا يبعد أن ذلك الحين والزمان هو آخر الدهر الذي وردت الأحاديث بفساده وفشو الباطل فيه وخفاء الحق، وأن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وأنه الزمان الذي يصبح فيه الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، وأنه زمان غربة الدين. فتلك الأحاديث الواردة فيه، التي شحنت بها كتب السنة، قرائن دالة على أنه زمان كثرة الهالكين، وزمان التفرق والتدابر». وأقول أيضا: كما أنه يكفي لصدق الحديث تحققه في أزمان معدودة، وليس من الضروري في كل زمان.. كذلك يكفي أن يقع هذا التفرق في بعض الأمكنة، لا في جميع ديار الإسلام. لذلك ليس التفرق -بمعنى الاختلاف في الدين- قدرا واجب الوقوع في جميع بلاد المسلمين، فقد يكون شديدا في بلاد، خفيفا في أخرى، منعدما في بلاد ثالثة. والسنة تشهد لهذا الاستنباط، ففيها مثلا مدح بلاد الشام واليمن، ومدح أهل الغرب الإسلامي -في حديث: لا تزال طائفة من أهل الغرب ظاهرين على الحق..- وفيها، من جهة أخرى، أن الفتن من الشرق، وذكر نجد وغيرها. والتاريخ أيضا يؤكد هذا، فإن من بلاد الإسلام ما لم يعرف التفرق المذهبي والطائفي، إما مطلقا أو عرفه بشكل محدود وفي فترات محدودة.. قارن -مثلا- بين ماضي الفرق الإسلامية بآسيا وبين ماضيها بإفريقيا، تجد أن منشأ الفرق وأكثر نشاطها كان بآسيا، لا بإفريقيا، فهذه القارة على مذهب واحد منذ ألف عام إلى اليوم. 4 - جاء الحديث على ظاهر الأمر فقط: من الأجوبة كذلك أن الحديث يشير إلى ظاهر الأمر دون باطنه. يقول الصنعاني: «الحكم على تلك الفرق بالهلاك والكون في النار حكمٌ عليها باعتبار ظاهر أعمالها وتفريطها، كأنه قيل: كلها هالكة باعتبار ظاهر أعمالها، محكوم عليها بالهلاك وكونها في النار، ولا ينافي ذلك كونها مرحومة باعتبار آخر من رحمة الله لها، وشفاعة نبيها وشفاعة صالحها لطالحها. والفرقة الناجية -وإن كانت مفتقرة إلى رحمة الله- لكنها باعتبار ظاهر أعمالها يحكم لها بالنجاة، لإتيانها بما أُمرت به وانتهائها عما نهيت عنه». 5 - حديث الأمة المرحومة مقيد لخبر الافتراق: من أجوبة الصنعاني كذلك عن الهلاك بالنار أن «الحكم مشروط بعدم عقابها في الدنيا. وقد دل على عقابها في الدنيا حديث: أمتي هذه أمة مرحومة.. فيكون حديث الافتراق مقيدا هذا الحديث في قوله: «كلها هالكة» ما لم تعاقب في الدنيا، لكنها تعاقب في الدنيا، فليست بهالكة». 6 - لا شك أن بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام لا علاقة لها به، كالغلاة من كل صنف، وتكفي مراجعة كتب المقالات لتقف على أعاجيب من الكفر والغباء معا، كتأليه بعض الشخصيات التاريخية مثلا.. وكلامنا ليس في هؤلاء، حتى لو ادعوا الإسلام، لأن مقالتهم كفر مجمع عليه، وإنما كلامنا في الفرق التي خالفت الجمهور، ومع ذلك حافظت على أصول الإسلام وأركان الإيمان. وظاهر الحديث أن الفرق المذكورة من الأمة الإسلامية، لأن الرسول الكريم قال: ستفترق أمتي، فجعل هذه الفرق من صلب الأمة وفي صلبها. وهذا صريح. لذلك قال الخطابي: «قوله: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة: فيه دلالة على أن هذه الفرق كلها غير خارجة من الدين، إذ قد جعلهم النبي (ص) كلهم من أمته. وفيه أن المتأول لا يخرج من الملة، وإن أخطأ في تأويله».