في ليلة القدر لهذا الشهر الفضيل، ومباشرة بعد أذان المغرب، بثت القناة الثانية حلقة جديدة من سلسلة الكاميرا الخفية التي تجري أطوارها داخل سيارة أجرة، وكانت حلقة استثنائية، ربما لأن منتجيها ومسؤولي القناة قرروا أن يحتفوا بليلة القدر بالطريقة التي تبدو لهم مناسبة. الحلقة كان موضوعها الضحك على الناس بطريقة متميزة، أي أن يصعد شخص إلى الطاكسي، ثم يدعي السائق بأن الراكب أصدر صوتا ما، ثم تنتشر رائحة داخل السيارة، ويبدأ السائق والركاب في وضع أيديهم على أنوفهم، في مشهد لا يليق لا بالتلفزيون ولا برمضان ولا بليلة القدر. أكيد أنه في ذلك الوقت الذي كان فيه التلفزيون يفوح بالرائحة، كانت هناك آلاف الأسر المغربية تجلس حول موائد الإفطار، وأكيد أنه كان هناك آلاف الأطفال الذين يجربون الصيام لأول مرة، والذين كانوا يجلسون مع آبائهم لتناول الإفطار، لذلك فإن أفضل وسيلة للتلفزيون لاحتقار الجميع واحتقار رمضان واحتقار ليلة القدر واحتقار الأطفال هو بث تلك الحلقة المريضة. ويمكن أن نتصور كيف كان شعور الآباء رفقة أبنائهم الذين يحتفلون بأول يوم للصيام وهم يتابعون تلك المشاهد المقززة ب«الصوت والرائحة»، وكلهم يتساءل لماذا تمت برمجة هذه الحلقة بالضبط في هذه الليلة المباركة؟؟ ما جرى في تلك الحلقة يؤشر على أحد أمرين: إما أن المسؤولين عن قطاع الإعلام في المغرب «طارت عقولهم» بالمرة، ولذلك ينبغي الحجر عليهم أو إدخالهم مستشفى للأمراض العقلية، أو أنهم يفعلون ذلك عمدا لإهانة المغاربة والمس بمشاعرهم، وفي كلتا الحالتين فإنه يجب العمل على وقف هذه المهزلة الإعلامية المستمرة لسنوات طويلة. احتقار ذكاء ومشاعر المغاربة عبر الأعمال التلفزيونية المقززة برداءتها ومستواها يتم عبر صرف الكثير من الملايير، وهي ملايير يؤديها المغاربة البسطاء من قوتهم وقوت عيالهم، وفي النهاية يجدون أنفسهم أمام مسخ يتكرر كل سنة، وهذا المسخ التلفزيوني تصبح قرونه أطول مع مرور السنوات، وبذلك يترسخ اعتقاد قوي بأن المسؤولين عن قطاع الإعلام في البلاد يتصرفون بمنطق «بْزيتو قْليه»، أي أنهم يعذبون المغاربة ويهينونهم بميزانية تخرج من جيوب المعذبين أنفسهم. لقد أصبح المغاربة يطرحون اليوم على أنفسهم أسئلة محيرة، وهي هل المغرب أصيب بالعجز التلفزيوني؟ أي أنه صار عاجزا عن إنتاج مسلسل حقيقي يتتبعه المغاربة بشغف كما يتتبعون، مثلا، مسلسل «باب الحارة» أو «سقوط الخلافة» أو مسلسلات جادة على قنوات فضائية أخرى؟ وهل كل هؤلاء المخرجين وكتاب السيناريو والممثلين وأشباههم عاجزون تمام العجز عن إنتاج مسلسل مغربي حقيقي ينافس مسلسلات عربية ناجحة؟ نجاح مسلسل «باب الحارة» عائد إلى كونه يتطرق لموضوع المقاومة السورية للاحتلال الفرنسي، والمغرب بدوره عرف الاحتلال الفرنسي. لماذا، إذن، يتتبع المغاربة تاريخ سوريا أو مصر عوض تتبع تاريخ المغرب؟ ولماذا يتتبع الناس مسلسلا عن الملك فاروق عوض أن يتتبعوا مسلسلا عن السلطان مولاي عبد العزيز أو مولاي عبد الحفيظ، مثلا؟ ولماذا يتتبعون مسلسلا عن كليوباترا ولا يجدون مسلسلا عن إحدى النساء المغربيات الشهيرات، وهن كثيرات. إنها أسئلة مُرّة يرددها المغاربة اليوم بكثير من الحيرة. تاريخ المغرب ليس أقل غنى وثراء من تاريخ سوريا أو مصر، إنه بلد فتح الأندلس والزلاقة ووادي المخازن وإيسلي ومعركة تطوان وأنوال وكثير من المعارك الأخرى بحلوها ومرها، بلد المقاومين والأبطال، مثلما فيه أيضا مرتزقة وخونة. هو أيضا بلد شخصيات كثيرة صنعت التاريخ داخل المغرب وخارجه. وهو كذلك بلد عشرات الآلاف من الأطفال الذين قاتلوا في الحرب الأهلية الإسبانية، والذين تصف المصادر التاريخية كل واحد منهم بكونه كان «رامبو» حقيقيا. المغرب أيضا بلد مقاتلين حاربوا في الهند الصينية والحرب العالمية الثانية وأدغال إفريقيا، وهو كذلك بلد مقاومين كبار مثل بن عبد الكريم الخطابي وغيره، وهو بلد الرحالة ابن بطوطة والجغرافي الإدريسي. لكن كل هؤلاء وكل هذا التاريخ لا يساوي شيئا، لذلك يفضل مسؤولو الإعلام منح الملايير لأعمال تلفزيونية مقززة أو رميها تحت أقدام مراهقين يضحكون على الناس باسم الكاميرا الخفية ويحتفلون بليلة القدر بالحديث عن انتشار رائحة داخل سيارة أجرة.