بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... بعد أن خاض العربي باطما تجربة غنائية في الحي المحمدي، جاء الدور على الفعل المسرحي ليطرُق بابه، إلا أن الانطلاقة لم تكن لتخلو من مظاهر للإهانة والصبر على اقتحام الصعاب. عن اليوم الأول لالتحاقه بالمسرح البلدي، الذي كان يديره الممثل والمخرج الطيب الصديقي، يقول العربي باطما في الصفحة ال92 من كتاب «الرحيل»: «في الفجر، أيقظتْني أمي، ثم خرجتُ من البيت، مرفوقا بدعواتها.. فكنت أقف في انتظار الحافلة، وقد اختلفتْ ألوان الملابس التي ألبسها، وفي يدي صديقي «البندير»، بل رفيق العمر، ملفوفا في «كْتّانة» بيضاء... وكنت أشعر بأنني موجود وأنني كذلك أُعدّ فردا من الناس وأنني أعمل... فلقد مرت سنين طويلة لم أستيقظ فيها في ذلك الوقت... كان الناس يقفون في انتظار الحافلة، وعلى وجوههم علامات الجد والنشاط... فرأيت وسطهم نشّالا من أبناء الحي. أعرفه ويعرفني.. فتقدم مني، ظانّا أنني رجعت إلى ميدان السرقة، ثم قال لي: «أتريد العمل في مقدمة الحافلة أم في مؤخرتها»... ابتسمتُ وقلت له: لا.. أنا الآن موظَّف في المسرح البلدي!.. لم يُصدِّق كلامي، فأريْتُه «البندير» وشرحت له.. ثم قال: إذن، هذا «البندير» هو قلمك؟!... ضحكنا، ثم تمنيتُ له الستر، ثم افترقنا.. نعم، يا صديقي النشّال.. إن «البندير» صار قلمي، بالفعل.. به عشتُ وتزوجت واكتريتُ واشتريت الملابس والسيارة، وركبت الطائرة وزرت بلدانَ العالم.. لقد رافقتني هذه الآلة العتيقة منذ الصبا، وإنني فخور برفقتها، وأُكِنُّ لها الاحترام، كما أنني أراها آلة شريفة.. آلة إيقاعية تضاهي الآلات العالمية».. ويواصل «بّا عْرّوب» النبشَ في ذكريات اليوم الأول قائلا: «أمام باب المسرح البلدي كنت أقف، في يدي «بنديري».. ومرت الساعات، وأنا أنتظر فتح الباب.. وذكَّرني وقوفي ذلك بأيام كنت أقف فيها أمام أبواب المعامل، في طلب الشغل، وتجاوزت الساعة العاشرة صباحا.. ولكن الباب ظل مغلقا، فرآني صديقي.. كان هو كذلك من أبناء الحي ويشتغل كممثل في فرقة «المسرح البلدي»، وسألني عن سبب وقوفي في ذلك المكان، ولمّا أخبرْتُه بأنني أنتظر فتح الباب، ضحك، وقال لي إن الباب لا يُفتح إلا في أيام العروض، أما في الأيام الأخرى، فالممثلون والتقنيون يدخلون من باب صغير يوجد وراء المسرح، فذهبتُ معه... كان هناك حارس الباب «بّا المختار»، رجل قصير القامة، ملتحٍ، يلبس جلبابا ويضع طربوشا أحمر على رأسه.. فتح لنا الباب وسأل الصديق عني فقال له إنني ممثل جديد أرسل المدير في طلبي، فرد هو: كلكم ممثلون جدد.. رحم الله التمثيل!.. ضحك صديقي وغمزني بعينه، ففهمت منه أن الرجل عنيف الطباع.. الرائحة التي صادفت خياشيمي كانت رائحة تشبه رائحة قاعات دور الشباب، لكنّ كل شيء كان مختلفا، الخشبة، الستائر، الأضواء، الكراسي، غرف الممثلين أنفسهم.. شباب أكثرهم ملتَحٍ.. بعضهم حليق الرأس ذو لحية حقيقية، ليستْ كالتي كنا نرسمها على ذقوننا ب«الفْرشي»... وبعضهم ترك ضفيرة أو دائرة من الشعر فوق صلعته... وكنت أعرف الكثيرين منهم، لأنهم كانوا يزوروننا في دار الشباب.. والبعض منهم من أبناء حينا.. وكان كذلك من ضمنهم شاب عرفتُه في ثانوية الأزهر وانقطعتْ صلتي به يوم إعلان الدولة عن التجنيد الإجباري، بل كان من الفوج الأول، وهو الآن شرطي... ولقد تجاهلني في ذلك اليوم لما رآني أدخل المسرح.. وأما بوجمعة وعمر السيد، فلقد استقبلاني، باشّيْن، مُرحِّبيْن بقدومي»!... ويضيف باطما: «جاء بوجمعة مبتسما كعادته، تلك الابتسامة التي كانت ترافقه في كل شيء، في تصرفه في تنكيته، كان صاحب نكتة في غنائه وتمثيله.. كان المرحوم رجل الابتسامة.. فسألني، عما أحمله، فأريْتُه «البْندير»، ثم ابتسم وقال لي: ارم هذه الجلدة.. فأخذني إلى صندوق وفتحه، كان فيه عدد من «البنادر» من النوع الرفيع، جلدُها من الماعز ومصنوعة بشكل دقيق وموزون.. ثم أخذني عمر السيد وكان صديقا لبوجمعة لا يفارقه ليلا ولا نهارا وبدأ ينصحني، كعادته مع الكل.. وقال لي: «أنت الآن تجاوزتَ مرحلة الممثل الهاوي ودخلت عالم الاحتراف، فعليك بالصبر والحضور في المواعيد المقرَّرة وحفظ الأدوار والإحراج، واعلم يا أخي أن المدير صعب المِراس شيئا ما، لكنه يعلم أننا ممثلون أكفاء، وإنه يعلّمنا الحرفة، ولهذا يا أخي، فقد ترى منه بعض المعاملات العنيفة، فهذا لصالحك يا أخي.. فعليك وضع أعصابك في ثلاجة إذا أردت أن تتابع عملك معنا في هذه الفرقة يا أخي!.. راعني منه ترديد كلمة «يا أخي».. فسألتُه عن ذلك فقال لي إن المدير يُردِّدها بكثرة، فصارت تلك الكلمة تتردد على أفواه الكل.. كنا نتكلم جالسين في القاعة.. فجأة، وقف شخص وسط الخشبة، ثم صاح بنا قائلا: من هناك؟.. قام عمر، مفزوعا، ثم رد: أنا عمر ومعي ممثل جديد.. قال الشخص: وهل القاعة في ملك أبيكما؟!.. ادخلا إلى الغُرَف، كباقي الممثلين.. قمنا وابتسم عمر وقال لي: إنه من أقرباء المدير.. ألم أقل لك عن الصبر يا أخي؟.. قائلا: أنا الصبر يا أخي.. وفي إحدى الغرف التي كنا نطلق عليها اسم «السات»، غرفة كنا نجلس فيها لنقوم بما يسمى في لغة المسرح «اليطاليان» وهي قراءة النص وحفظ الحوار والتدرب عليه.. جلس الممثلون، وسطهم رئيس الفرقة، وقال لي هذا الأخير: غنِّ! فغنيت، وأُعجب البعض بغنائي.. في حين رأيت علامات التّهكُّم في أعين البعض الآخر، ومن جملتهم الرئيس.. لاحظتُ ذلك في أعينهم، وهي عادة تمكّنتُ من فهمها ومن قراءة ما يجول ببال الآخرين.. إبّان جلوسي كحارس للدراجات، كنت ألاحظ أوجه الناس ثم أميِّز الشرطي من السارق.. وما زالت لديّ هذه القدرة على فهم الآخر من خلال بصره، الشيء الذي جعل الأطباء المشرفين على مداواتي يتحاشوْن بصري، عندما كانوا يفحصونني»!.. يتبع