بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... بين المدينة و«العْروبية»، كان العربي باطما دائم التنقل، في كل فضاء ذكرى، وفي كل حي أو دوار يحتفظ «بّاعْرّوب» بأسرار إنسانية ومجتمعية.. وعلى الرغم من سنوات قضاها في الحي المحمدي، فقد ظل متعلِّقا بالتربة الأصيلة ومتعلقا بكل شيء يشتمُّ فيه «ريحة العروبية»، وهو ما برز في إيقاعاته ومعجمه البدوي الضارب في عمق الدواوير. ويحكي الراحل العربي باطما عن فترات استقراره المؤقت في المدنية في الصفحة 23 من كتاب «الرحيل»، الذي يرصد فيه مساره الفني والحياتي: «كنت أرافق الرجال إلى السوق، ثم نشتري البقرة، وكان دوري يأتي بعد الذبح، حيث إنني أكتب أسماء الأشخاص في وريقات صغيرة، ثم أجعلها على شكل مربَّعات، وبعد أن ينتهي الجزار وعادة ما يكون عاملا بالسكة الحديدية تعلم الجزارة في البادية، عندما كان راعيا- يقسم اللحم على شكل حصص متساوية، أضع أنا الوريقات التي كتبت فيها أسماء الأشخاص فوق كومات اللحم «العْرارم» ثم أبدأ برفع كل ورقة وأقرأ الاسم، فيأخذ الشخص حقه من اللحم.. تسمى هذه العملية «القرعة» أو «لُوزيعة»، أما رأس البقرة ومحتويات معدتها، من قلب وكبد ورئة وطحال وجلد، فكانوا يضعونها في المزاد، وبعد هذا يجتمعون في كوخ أحدهم، ويشترون الديفان وتوابعه... كان جلهم يشربها.. ثم يتصاعد الدخان من الأكواخ، ليس دخان البخور، بل دخان الشواء.. الآباء يأكلون ويسكرون، والأمهات يطبخن وقد علت الضحكات. وفي المساء، يعم قيء الآباء أزقة الأكواخ. في بعض الأحيان، تنشب معارك بين الآباء بشكل جنوني، بل كل العرب يُعَدّون من أكَلة اللحوم، طازجة ومطبوخة.. أما ربحي أنا فقد كان قدرا من المال، آخذه منهم لأذهب أنا وأخي إلى السينما.. لهذا، كنت أنتظر آخر الأسبوع بفارغ الصبر، لأنني كنت أحب السينما بشكل جنوني». للراحل العربي باطما ذكريات طويلة مع السينما، كان طفلا عاشقا للسينما، وعاش ممثلا متعلقا بسحر الشاشة الكبرى.. بين سينما «شريف» وسينما «السعادة»، عاش ذكرياته السينمائية، وهو الممثل الذي شارك في أفلام «الناعورة» و«الحال» و«خفايا».. عن مرحلة اكتشاف الفعل السينمائي، يقول العربي باطما: «لقد أخذتني الشاشة منذ الوهلة الأولى... بل لقد كان شيء ما يتكون بداخلي، أراه على صفحة الشاشة البيضاء.. وأذكر أنه كنت في يوم راجعا، أنا وأخي وأمي، إلى كوخنا.. فمررنا أمام باب سينما تسمى «سينما شريف». كان العرض لم يبدأ بعد وباب السينما مقفلا، اللهم الشباك الحديدي ترى منه صور وملصقات. وضعت وجهي على الشباك، ورائي أمي وأخي، وصادفت خياشيمي رائحة القاعة السينمائية، رائحة ما زلت أشمها في كل القاعات، في المغرب أو في أوربا في كل العالم، رائحة السجائر وأنفاس الناس.. إنها رائحة النفس البشرية وحرارة الإنارة. قلت لأمي إنني أريد مشاهدة الفيلم. نهرتْني قائلة إن ثمن الدخول باهظ.. وسألتُها هل دخلت هي في يوم لمشاهدة فيلم. فقالت لي إنها دخلت إلى السينما في مدينة سطات مع أبي وإنها كرهت ذلك، وأحست بألم في عينيها وفي رأسها.. وإن مشاهده كانت عبارة عن أضواء وصور، تجرى فوق إزار أبيض.. ولوالدة الراحل العربي باطما نظرتُها وموقفها الخاص من السينما، وعلى الرغم من ذلك كان هوس السينما ينادي «بّاعروب» ويقول إنك جزء من السينما. عن هذا الصراع العائلي، يقول العربي: «كانت -رحمها الله- في تلك الآونة تحاول أن تُبعد فكري عن الإصرار وطلب ثمن الدخول.. غادرنا باب السينما وفي داخلي شيء يقول: لا بد من مشاهدة فيلم.. لهذا، كانت أمسيتا السبت والأحد تعدان بالنسبة إلي عيدا.. ووجدت نفسي أبحث عن الربح المادي بشتى الوسائل. فاشتريت كتابا يدعى «قرعة الأنبياء» وأخذت أتعاطى الدجل أو الشعوذة أو الحقيقة... المهم هو أن النساء كن يثِقن بي ويعطينني مالا.. وأبيع «الشربة»، وهي سائل أصفر، متكون من الماء وقرص كنت أشتريه من دكان في «الصخور السوداء»، صاحبه بربري.. وأبيع الخروب والتين الشوكي «الهندية».. و«الفيلمات»، وهي كتب الرسوم المصورة «زامبلا» «كيوي» «تاتين» «بيم بام» وكتب أخرى «الروموات»، وهي مجلات تحمل قصصا وصورا يشتريها الشباب المراهقون بكثرة.. وأضاف العربي باطما: «كان لا بد من الحصول على المال، لذهابنا إلى السينما، أنا وأخي. وكان أبي يفتخر بي أمام أصدقائه، ويقول مبتسما: العربي غادي يخرج راجل إن شاء الله.. كيقور الفلس من جناح الذبانة.. أي أن العربي ابني سيكون رجلا، يبحث عن رزقه وماله تحت جناح الذبابة.. وأتمنى أن يكون شرحي لهاته الجمل «الدارجة» صحيحا، لأن اللغة الدارجة، ولا أقول اللهجة الدارجة، لها معانٍ تصعب ترجمتُها.. لأنها در في أعماق البحر كامن.. بالرغم من تقلب اللهجات الاستعمارية ودخول بعض الكلمات إليها»... يتبع