في جلسات حوار مطولة، هي على شكل اعترافات، تحدث الزميل محمد ذو الرشاد، وهو من أبرز الإعلاميين المغاربة، الذين وضعوا اللبنات الأولى في العمل المهني، في حقل السمعي البصري، عن معارك خاضها رفقة زملاء له آخرين، من أجل إصلاح الأوضاع داخل التلفزيون المغربي. وتطرق إلى تفاصيل ملموسة لتدخل وزارة الداخلية في توجيه التلفزيون المغربي. وقارن بين ماضي القناة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وحاضرها. وقدم حكايات أخرى عن تجارب له في أمريكا وفي منطقة الخليج، قبل أن يعود مجددا، في اعترافاته، ليتحدث عن القناة الأولى، وهو الذي كان من نجومها، في وقت من الأوقات، يشرف على نشراتها الإخبارية ويقدمها في بعض الأحيان, ويغطي ويواكب أنشطة الملك الراحل الحسن الثاني، سواء داخل أو خارج المغرب. - كيف ظهر لك الفرق بين تجربتك داخل التلفزة المغربية لمدة 10 سنوات وبين التألق الذي عاشته قناة أبو ظبي؟ أنا لا أدري تحديدا وبالضبط كيف أصبحت عليه الأوضاع داخل التلفزيون المغربي. حاليا، لا أدري ولا يمكنني أن أطلق الأحكام على ما يجري داخل التلفزيون المغربي، لكن إذا قارنتها مع المدة التي عشتها شخصيا بالتلفزيون المغربي وقناة أبو ظبي، فلا مجال للمقارنة تماما. لكل واحدة توجهها. قناة أبو ظبي كانت ذات توجه عالمي وبالتحديد عربي إسلامي، لم تكن تعنى بالمشاهد الإماراتي وحده، ولكن كانت تخاطب المشاهد في كل مكان، حتى خارج العالم العربي، وأعتقد أن التلفزيون المغربي قناة محلية موجهة للشأن الداخلي وللمشاهد المغربي، وليس هناك أي مجال للمقارنة. قناة أبو ظبي، ونظرا للإمكانيات المادية والبشرية لا يمكن مقارنتها مع التلفزيون المغربي. فمن حيث الأجور، تجدها في المستوى العالمي، وكذلك معايير العمل في تلك القناة كانت معايير عالمية. - داخل هذه القناة تألق إعلاميون مغاربة وانتقلوا إلى قنوات أخرى، رغم أنهم كانوا غير معروفين بالتلفزة المغربية؟ إذا سألتني عن الشيء الذي حز في نفسي بعدما تركت أبوظبي، فهو استغناء القناة عن كل تلك الكفاءات، بعد المجهود الذي بذل من أجل تكوين وجمع هؤلاء الناس من المغرب والجزائر وتونس ومن دول عربية مختلفة، من داخل وخارج الإمارات. هذه التوليفة التي تجسدت خلال سنين بذلت فيهما الكثير من الجهود لخلقها، أن يتم الاستغناء عن تلك الكفاءات في لحظة من اللحظات، وأن يتم استثمارها من طرف قنوات أخرى، فهذا بالنسبة إلي كان مصدر ألم حقيقي. ولا أستطيع هنا أن أجلس أمامك وأترك الانطباع لدى القراء وكأني صلاح الدين الأيوبي أو طارق بن زياد، وأنني أنا الذي صنعت كل شيء في قناة أبو ظبي، بل ما حصل في أبوظبي كان نتيجة لمجهود جماعي، ساهمت فيه أسماء ذكرتها وأخرى لم أذكرها، وهي كثيرة، ومن بينها أسماء العديد من الإماراتيين والعرب والأجانب، والمغاربة دون شك، لأننا نتحدث هنا إلى القراء في المغرب. لقد قصدنا عدة عواصم بحثا عن تلك الكفاءات. ذهبنا إلى بيروت ولندن وباريس والقاهرة، وقلت لمَ لا الرباط؟ فأجابني رئيس لجنة الاستقطاب، إسماعيل عبد الله، وهو إعلامي إماراتي متميز، بكونهم حاولوا في السابق، ولكنهم لم يعثروا على أحد في المغرب. قلت له إن هناك أناسا لهم كفاءات وإني أعرف إمكانياتهم، وهناك ربما مشكل في التواصل بسبب اللغة الفرنسية السائدة في المغرب. وعندما جئنا إلى الرباط، كان هناك العديد من المرشحين، وانضم العديد من الإعلاميين المغاربة الذين شاركوا فعليا في بناء القناة، من بينهم الزميل عبد الرحمن العدوي، وأنس بوسلامتي الذي انتقل في ما بعد إلى قناة دبي، ومحمد العيشي وهو رئيس تحرير حاليا بالجزيرة، والإعلامي هاشم أهل برا، والإعلامية والكاتبة نوار الودغيري (وهي أم ابنتي رنا ونوران)، والمذيعة الإخبارية المعروفة فتيحة دنيال، والإعلامية لطيفة مروان، والإعلامي محمد العمراني، والمراسل أنس بنصالح، فضلا عن العديد من المخرجين والمصورين وفنيي المونتاج، من بينهم على الخصوص مخرجون متميزون تركوا بصمات واضحة في القناة، ومنهم محمد بلحاج الذي التحق بالجزيرة، وعبد الواحد أزناك وسعيد آزر، وانضمت إلينا مصورة مغربية، وهي السيدة عائشة بلحاج، وهي الوحيدة التي عملت مصورة في التلفزيون الإماراتي، وكانت في السابق من بين مصوري الاستوديو في التلفزيون المغربي عندما كنت مقدما للأخبار. في أبو ظبي كان من الإعلاميين الذين وجدتهم هناك، محمد مقروف من القسم الرياضي. وأنشأنا لأول مرة مكتبا في الرباط، تولاه الأخ علي بوزردة، وهناك أسماء لامعة أخرى لا يمكن ذكرها كلها في هذا السياق. سألتني عن سبب تألق المغاربة في القنوات الأخرى، وأعتقد أن الجواب بديهي، وهو أن الأطر الجيدة موجودة في المغرب، وهي موجودة الآن في القنوات المغربية، لكنها بحاجة إلى مناخ عمل جيد لكي تقدم ما لديها وتتألق. - قلتَ إنك عشت بمدينة بغداد حوالي شهر بعد احتلالها من قبل الجيش الأمريكي، كيف عشت هذه الفترة وأنت على رأس قناة إخبارية؟ بغداد كانت مختلفة تماما عن بغداد التي كنت أعرفها، أول مرة زرت فيها بغداد كانت في 1979، وهي السنة التي تولى فيها صدام حسين الحكم. في تلك السنة كان صدام قد أقام حفلا كبيرا بمناسبة عيد «تموز»، كان في عز الصيف وكانت درجة الحرارة جد مرتفعة تفوق 40 درجة، وكان شهر رمضان. لأول مرة شاهدت صدام حسين شخصيا. وكنت ضمن وفد إعلامي مغربي يضم من بين أعضائه الزميلين أحمد ريان وحمد الماجدولي. وكان صدام حسين في بدايات حكمه الأولى التي تميزت بتصفيته العديد من العناصر المعارضة. دعانا صدام في اليوم الأول في بغداد لحفل إفطار في أكبر فندق في العاصمة. ووصل الرجل متأخرا, تقريبا بعد أذان المغرب بحوالي ساعة تقريبا، والعديد من الإخوة الذين كانوا صائمين، لم يتجرأ أحد منهم على مد يده إلى الطعام، لأن الجميع كانوا ينتظرون قدوم الرئيس. وعندما وصل، وعوض أن يدعو الناس للإفطار، دعانا إلى قاعة المؤتمرات داخل الفندق، وبدأ يلقي علينا خطابا عصاميا، أتذكر أنه طال أكثر من ساعة، في عز الحرارة والجوع والعطش الذي كاد يقضي على عدد من الصائمين. وبدأ صدام يتحدث عن مشروع كان ينوي تقديمه إلى الجامعة العربية حول ميثاق الدفاع العربي المشترك، وهو مشروع كان ينادي به منذ اللحظات الأولى لوصوله إلى الحكم. وعند عودتي إلى بغداد سنة 2003 كانت المدينة مختلفة تماما، فقد تطورت كثيرا في عهد صدام، ولكنها تحولت بعد سقوطها إلى مدينة أشباح كما ذكرت. في سنة 1979، كانت مدينة مزدهرة، كانت تتميز بنظافتها وشوارعها الجميلة وبناياتها الرائعة وقصورها التاريخية ومآثرها المختلفة. كان هناك الكثير من الانضباط، وكان لا يمكن للعراقي أن يقطع الطريق من غير المكان المخصص للراجلين. وقد شاهدت مقصورات زجاجية على الأرصفة قالوا لي إن أي شخص خالف القانون يزج به داخل هذه المقصورات تحت الشمس لعدة ساعات. وكان ذلك الانضباط يجعلك تحس بأنك أمام نظام قوي يمسك بزمام الأمور. لكن في سنة 2003، تحولت بغداد إلى مدينة مدمرة، وفي تلك المدة التي قضيتها هناك، كنت أتساءل عما إذا كان أهل بغداد هجروا المدينة خوفا من انتقام صدام حسين، لأن الشوارع كانت فارغة من الناس بالليل والنهار. ولكني عرفت أن العراقيين من المدنيين والعسكريين السابقين كانوا قابعين داخل منازلهم، وكنت لا تجد إلا الدبابات الأمريكية والجنود الأمريكيين يتجولون في الشوارع، وكنا نسمع التبادل الكثيف لإطلاق النار طوال الليل. كانت الشوارع مظلمة، إلا القصر الرئاسي الذي كان مقابلا لشرفة الفندق الذي كنا نقيم به. وما أثار انتباهي في ذلك الوقت، بعدما بدأ يخرج العراقيون من منازلهم، هو ذلك السيل الهائل من الضباط السابقين في الجيش العراقي وضباط المخابرات، ممن كانوا مع صدام أو كانوا معتقلين من طرف نظام صدام، حتى إن الكثير من العراقيين كانوا يأتون بأخبار مضللة، من قبيل مشاهدتهم لصواريخ برؤوس نووية، ويعطونك أوصاف ما شاهدوه، وكيف نقلت تلك الصواريخ إلى أماكن معينة، إلى غير ذلك من قصص الخيال. وكنت أخصص من وقتي أربع إلى خمس ساعات يوميا للاستماع إلى هذه الشهادات. وكان ضمن الذين كنت أستقبلهم من يوم لآخر، جنرال كان يقود لواء المدرعات بمنطقة «العزيزية» قرب بغداد، وكان الرجل غاضبا من الأمريكيين. قال لي إنه يريد الانتقام من الأمريكيين، وطلب مني أن أبلغهم بأنه مستاء جدا لأنهم اقتحموا منزله وسرقوا بعض متاعه واستباحوا حرمة بيته. وتساءل لماذا كانوا يبحثون عنه، في حين أنه هو الذي أصدر الأمر بعدم إطلاق النار على القوات الأمريكية عند اجتياحها منطقة العزيزية.