لا بد أن جل المدن المغربية اليوم تشعر بالغيرة من مدينة الحسيمة بسبب قرارات التوقيف التي صدرت، بقرار ملكي، في حق 15 مسؤولا في الأمن والدرك والجمارك والقوات المساعدة والدرك البحري والإدارة الترابية. فأغلب المدن تشكو من تسلط بعض مسؤولي هذه الإدارات الذين يستعملون مؤسسات الدولة لابتزاز المواطنين ورجال الأعمال المحليين والأجانب. ولعل أول شيء تجب الإشارة إليه هو أن هؤلاء المسؤولين الذين تم توقيفهم ليسوا مدانين، وإنما مجرد متهمين. فلجنة التحقيق، التي عهد الملك إليها بالشكايات والمظالم التي تلقاها خلال مقامه بالحسيمة، حددت المسؤولين عن التجاوزات التي تعرفها المدينة، وبالتالي فالقضاء هو الذي سيحسم في مصير هؤلاء الموظفين الموقوفين بعد إحالة ملفاتهم عليه قصد المتابعة. فالخطأ القاتل الذي ارتكبه المدير العام لإدارة الأمن الوطني، عندما نقل والي الأمن من تطوان إلى الداخلة بدون مهمة، خطأ لا يجب أن يتكرر. فعندما يخطئ مسؤول رفيع المستوى أو يمارس شططا في السلطة، فالشيء الوحيد الذي يجب أن تقوم به إدارته هو معاقبته بالتوقيف أو إحالته على القضاء في حالة ما إذا كان خطؤه متعلقا بالارتشاء أو التورط في شبكات المخدرات أو الفساد. أما اللجوء إلى سياسة أوفقير، ومعاقبة المسؤولين بإبعادهم إلى الصحراء أو المناطق النائية، ففيه إساءة إلى جزء كبير من المغرب لازال ينظر إليه بعض المسؤولين الذين ينتمون إلى الماضي على شكل منفى. إن الداخلة مثلها مثل جميع الأقاليم الصحراوية، ليست مناطق للنفي العقابي، وإنما مناطق يجب أن ترسل إليها الوزارات والمؤسسات العمومية ومؤسسات الدولة خيرة أطرها وموظفيها، لا أن يهدد المسؤولون أطرهم وموظفيهم بنفيهم إليها من أجل معاقبتهم. إذا كان والي الأمن بتطوان قد أخل بواجباته المهنية، فالحل الوحيد هو محاسبته على أخطائه، ثم اتخاذ القرار الإداري المناسب في حقه. أما «نفيه» إلى الداخلة بدون مهمة، مثلما نفي قبله والي أمن الدارالبيضاء السابق الرميل إلى العيون، فليس حلا، لأنه إذا استمرت إدارة الأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة وإدارة الجمارك والإدارة الترابية في نفي موظفيها المرتشين والفاسدين إلى الصحراء عقابا لهم، فإن هذه المنطقة التي يريد المغرب تحويلها إلى نموذج للحكم الذاتي ستتحول إلى مرتع للموظفين الفاسدين الذين يستحيل معهم إنجاح أي مشروع مهما كان طموحا. وربما لهذا السبب بالضبط تم إعفاء عبد العزيز السامل، رئيس المديرية العامة للموارد البشرية بالإدارة العامة للأمن الوطني. فهذا الرجل، الذي جلبه الجنرال العنيكري، هو الذي يتحكم في جميع التنقيلات والتعيينات داخل إدارة الأمن من الولاة إلى أصغر شرطي. وقد نجح عبد العزيز السامل، طيلة السنوات التي قضاها على رأس الموارد البشرية، في بناء جهاز للأمن تابع له دخل الإدارة العامة للأمن الوطني. ولعل واحدا من «إبداعاته» هو اقتراحه لوالي أمن الحسيمة الذي سبق للعنيكري أن أوقفه بسبب شكايات المواطنين التي تتهمه بالابتزاز. وهاهو الزلزال الأخير الذي ضرب الحسيمة يطيح مجددا برأس الوالي الذي دافع السامل عن تنصيبه، بحكم العلاقة العائلية التي تجمعه به. للسامل أيضا علاقة عائلية بوزير الإسكان توفيق احجيرة، فهما معا متزوجان من أختين. وقد فقد السامل زوجته مؤخرا بعد أن دخلت لكي تلد في إحدى المصحات الخاصة بالدارالبيضاء، فخرجت منها ميتة. وقد فتح القضاء تحقيقا في القضية وقررت المحكمة متابعة أحد الأطر الطبية بتهمة الخطأ الطبي. هكذا، فقد السامل في ظرف شهر زوجته ووظيفته. وفي كلتا الحالتين، هناك ضرورة ملحة لفتح تحقيقين قضائيين: الأول حول وفاة زوجته في المصحة، وهو الأمر الذي تم بعد حملة إعلامية منظمة في العديد من الجرائد والمجلات التي حكمت مسبقا على المصحة بارتكاب الخطأ الطبي دون إعطائها حق الدفاع عن نفسها، والثاني يتعلق بطريقة إدارته للموارد البشرية للإدارة العامة للأمن الوطني، وهو التحقيق الذي لم يفتح بعد. وأملنا أن تتجرأ جريدة «الصباح» التي تبنت قضية زوجة السامل وطالبت القضاء بمعاقبة المصحة والطبيب الذي أجرى العملية، وكتبت افتتاحية في الصفحة الأولى مطالبة بالقصاص من «الجناة»، حتى دون انتظار مرافعات المحاكمة، أملنا أن تكمل «خيرها» وتطالب بمحاسبة السامل بعد إعفائه من أجل تحديد مسؤوليته في التعيينات العشوائية لمسؤولي الأمن، عوض تمكينه من تقاعد مريح كما قرر ذلك الشرقي الضريس. نعتقد أن هذه الجريدة لن تكون لديها الجرأة على القيام بذلك. فكل ما استطاعت إليه سبيلا هو كتابة خبر إعفاء السامل وربطه بحالته النفسية المتردية بسبب فقدانه زوجته، ثم المرور إلى «ضرب الشيتة» للمسؤول الجديد مولاي إدريس العلوي، عملا بالحكمة المغربية القائلة «الله ينصر من صبح». هناك المئات من المواطنين الذين يفقدون زوجاتهم وأقاربهم في المصحات الخاصة والعمومية دون أن تقوم كل هذه الضجة الإعلامية حولهم. وإذا كان من حق جميع المواطنين الذين يتعرضون لفقدان أفراد من أسرهم في المصحات، بسبب ما يعتبرونه أخطاء طبية، أن يلجؤوا إلى القضاء وأن يتم إنصافهم، فإنه أيضا ليس من حق مسؤول كبير في الإدارة العامة للأمن الوطني كالسامل أن يستغل اختراقه لمجموعة من الجرائد والمجلات للضغط بها على القضاء وتجريم المصحة وأطبائها على صفحاتها قبل أن تقول المحكمة كلمتها. ليس لأن الضحية هي أخت زوجة وزير الإسكان وزوجة مدير الموارد البشرية للإدارة العامة للأمن الوطني، فإن الصحافة مجبرة على تبني قضيتها وأخذ مكان القضاء في إصدار أحكام الإدانة ضد المصحة وأطبائها. الصحافة يجب أن تطالب بإنصاف الضحايا في الجهتين وإعمال العدل باستقلالية بغض النظر عن مواقع وأسماء المتقاضين، لا أن تدافع عن براءة جهة على حساب توريط جهة أخرى. وهذا للأسف ما قامت به صحف ومجلات كثيرة في قضية زوجة السامل المعروضة اليوم على أنظار القضاء. في الوقت الذي نرى فيه كيف تفقد عائلات كثيرة أفرادها في المصحات دون أن تستطيع تحريك المتابعة في حق هذه المصحات التي دخلها هؤلاء الضحايا على أرجلهم وغادروها داخل الصناديق المشمعة. اليوم وقد أعفي عبد العزيز السامل من منصبه وتنكرت له الصحافة التي كانت تدافع عنه بعد أن أعلنت ولاءها لخلفه، فإن المطلوب من القضاء أن ينظر في هذا الملف بتجرد بعد أن خف الضغط الإعلامي الذي مورس عليه بشكل منظم منذ اندلاع القضية. المطلوب، إذن، محاكمة عادلة تنصف المظلوم وتدين الظالم. وهي مناسبة أيضا لكي يحرك القضاء جميع شكايات عائلات ضحايا المصحات الخاصة والعمومية، وأن ينظر فيها بتجرد واستقلالية، حتى يعرف أصحاب هذه المصحات أن الأخطاء الطبية يجب أن تكون هي الاستثناء في عملهم وليس القاعدة. وربما بسبب تكاثر هذه الأخطاء الطبية، قرر عباس الفاسي، الوزير الأول، أن يقاطع مستشفيات وزيرته ياسمينة بادو وأن يذهب، الأسبوع الماضي، إلى باريس لكي يجري فحوصات طبية في المستشفى الأمريكي بباريس، وهو أحد المستشفيات الراقية التي تقدم، بالإضافة إلى الخدمات الطبية، خدمات للعناية بالجسم ورشاقته. وهكذا، ففي الوقت الذي تفتخر فيه وزيرة الصحة بجودة الخدمات التي أصبحت تقدمها مستشفياتها، نرى كيف أن هذه الجودة غير قادرة على إقناع وزيرها الأول، والذي يفضل عليها الجودة الفرنسية. غريب أمر هؤلاء الوزراء الاستقلاليين، يضعون برامج للتعليم العمومي ثم يدرسون أبناءهم في التعليم الفرنسي، يسيرون القطاع الصحي وعندما يمرضون يذهبون إلى مستشفيات باريس لكي يعالجوا أنفسهم. لقد رأى الجميع كيف أن الملك عندما مرض تعالج في المغرب، وبمجرد ما أصيب بوعكة صحية أصدر بلاغا في الموضوع يتحدث عن مرضه ونوع الفيروس الذي أصابه والأعراض التي تسبب له فيها. أما الوزير الأول عباس الفاسي فقد سافر خلسة إلى باريس ودخل المستشفى الأمريكي وأجرى فحوصات طبية دون أن يصدر ديوانه بلاغا صغيرا يخبر فيه الرأي العام بالوضع الصحي للوزير المسؤول الأول عن الإدارة والآمر بالصرف في المغرب حسب نص الدستور. السؤال المهم الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: إذا كان الوزير الأول مصابا بمرض عادي يتطلب فحوصات عادية موجودة في المغرب، فلماذا لم يقم بها في مستشفيات وزيرته الضاحكة؟ وإذا كان مصابا بمرض خطير لا يوجد علاجه في المغرب ويستدعي ذهابه إلى فرنسا، فلماذا لا يخبر الرأي العام بالأمر ويقدم استقالته من الحكومة ويتفرغ للعلاج؟ إن الزلزال الذي ضرب الحسيمة قبل يومين وأطاح بكل هؤلاء المسؤولين يجب أن يضرب هذه الحكومة بنفس الحدة، وألا يتوقف حتى يطيح بعباس الفاسي من كرسي الوزارة الأولى. لم يعد يسمح الوضع الدقيق الذي يجتازه المغرب بأن يظل على رأس حكومته وزير أول مريض، ضعيف الشخصية، غير قادر حتى على التحكم في وزراء حزبه فبالأحرى أن يتحكم في الوزراء الآخرين المشاركين معه في هذه الحكومة التي تشبه «دربالة الهداوي» من كثرة الألوان الحزبية التي رقعت بها.