سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الحكم بالإعدام على الجاسوسة هبة سليم وعشيقها الضابط فاروق الفقي الجاسوسة المصرية سافرت إلى ليبيا من أجل زيارة والدها المريض فوجدت رجال المخابرات في استقبالها
عاش الجواسيس في خيال الناس كشخصيات وهمية ساحرة منذ فترة طويلة، فمن منا لم ينبهر بشخصية الجاسوس الشهير جيمس بوند ولم يتابع أفلامه بشغف شديد، ولكن هل يعرف الناس، على وجه اليقين، شيئاً عن حياة هؤلاء الأفراد الذين اختاروا «الفن القذر»، خاصة أن الخيانة لديهم تنبع من معين الجشع والطمع وحب المال وضعف النفس ووهن الإيمان وغياب الولاء والانتماء والسعي لإرضاء الشهوات والوقوع فريسة للنزوات.. دون أن يقروا بمبدأ الرحمة ولا نداءات الضمير الذي قد يستيقظ فيهم أحيانا. إنه عالم غريب يفتقر إلى العواطف ولا تصنيف للمشاعر تحت سمائه وفي دهاليزه المظلمة الغامضة. إنه عالم تستهوى فيه العقول على اختلاف مداركها وثقافاتها..عالم تقتحم فيه عوالم غريبة غامضة تضج بعجائب الخلق وشذوذ النفس.. عالم متوحش الأذرع، عديم الصفاء، لا يقر بالعلاقات والأعراف ولا يضع وزنا للمشاعر، نسيجه دائما قوانين لا تعرف الرحمة، أساسها الكتمان والسرية والجرأة، ووقودها المال والنساء والشهوة.. عالم يطوي بين أجنحته الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك ويقيم نظماً ويدمر جيوشاً وأمماً ويرسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ، فمنهن من باعت الوطن والدين في سبيل حبها للآخر العميل و أخرى اعتنقت ديانة أخرى في سبيل إرضاء حبيبها الجاسوس، ومنهن أيضا من عملت ضد وطنها وضمت أفراد عائلتها والمحيطين بها في دهاليز الجاسوسية أو خانت قدسية زواجها ووطنها في سبيل لذة جنسية مع العدو ... إنهن نساء عاشقات في بحر الجاسوسية . في القاهرة كان البحث لا يزال جارياً على أوسع نطاق، والشكوك تحوم حول الجميع، لكن مراقبا ذكيا من مراقبي الخطابات في المخابرات المصرية لفتت نظره إحدى الرسائل الغرامية المرسلة إلى فتاة مصرية في باريس، رغم أن سطورها تفيض بالعواطف الجياشة من حبيبها. لكن ما لفت نظر المراقب عبارة كتبها مرسل الخطاب يقول فيها إنه قام «بتركيب إيريال الراديو الذي عنده، ذلك أن عصر إيريال الراديو قد انتهى». إذن فالإيريال يخص جهازاً لاسلكياً للإرسال والاستقبال.هكذا ردد رجل المخابرات المصرية . انقلبت الدنيا في جهازي المخابرات الحربية والمخابرات العامة وعند ضباط البوليس الحربي، وتشكلت عدة لجان من أمهر رجال المخابرات، ومع كل لجنة وكيل نيابة لإصدار الأمر القانوني بفتح أي مسكن وتفتيشه. كانت الأعصاب مشدودة حتى أعلى المستويات في انتظار نتائج اللجان، حتى عثروا على جهاز الإيريال فوق إحدى العمارات بحي الدقي، أحد أحياء العاصمة المصرية القاهرة. كما عثروا على الشقة التي يصل إليها سلك الإيريال، والتي تخص ضابطا يعمل مديرا لمكتب إحدى القيادات الهامة في الجيش، لم يكن سوى المقدم فاروق عبد الحميد الفقي، الذي كان بحكم موقعه مطلعا على أدق الأسرار العسكرية، فضلا عن دوره الحيوي في منطقة سيناء. اتصل الضباط في الحال باللواء فؤاد نصار، مدير المخابرات الحربية، وأبلغوه باسم صاحب الشقة، فقام بإبلاغ الفريق أول أحمد إسماعيل وزير الدفاع (قبل أن يصبح مشيراً)، الذي قام بدوره بإبلاغ الرئيس السادات. اعترافات في مبنى المخابرات كان فاروق في تلك الأثناء في مهمة عسكرية بعيدا عن القاهرة. وعندما عاد إلى مكتبه، كان نائب مدير المخابرات الحربية اللواء حسن عبد الغني ينتظره جالساً خلف مكتبه بوجه صارم وعينين قاسيتين، فارتجف فاروق رعباً و جحظت عيناه، وقال في الحال: «هو أنت عرفتوا؟؟» عندما ألقي القبض على فاروق استقال قائده على الفور، ولزم بيته حزيناً على خيانة فاروق والمعلومات الثمينة التي قدمها للعدو. وأثناء التحقيق اعترف الضابط الخائن تفصيلياً بأن خطيبته جندته بعد قضاء ليلة حمراء معها، وأنه رغم إطلاعه على أسرار عسكرية كثيرة فإنه لم يكن يعلم أنها ستفيد العدو. وعند تفتيش شقته تم العثور على جهاز اللاسلكي المتطور، الذي يبث من خلاله رسائله، وكذا جهاز الراديو ونوتة الشفرة، والحبر السري الذي كان بزجاجة دواء للسعال. كما ضبطت أيضاً عدة صفحات تشكل مسودة بمعلومات هامة جداً معدة للبث، كما وجدت خرائط عسكرية بالغة السرية لأحشاء الجيش المصري وشرايينه، تضم مواقع القواعد الجوية والممرات والرادارات والصواريخ ومرابط الدفاعات الهامة. وفي سرية تامة قدم فاروق سريعاً للمحاكمة العسكرية، التي أدانته بالإعدام رمياً بالرصاص، واستولى عليه ندم شديد عندما أخبروه بأنه تسبب في مقتل العديد من العسكريين من زملائه جراء الغارات الإسرائيلية، إذ أخذوه في جولة ليرى بعينيه نتائج تجسسه، فأبدى استعداده مرات عديدة لأن يقوم بأي عمل يأمرونه به. وبعد دراسة الأمر بعناية، وجدت قيادة المخابرات المصرية أن تستفيد من المركز الكبير والثقة الكاملة التي يضعها الإسرائيليون في هذا الثنائي، وذلك بأن يستمر في نشاطه كالمعتاد، خاصة أن الفتاة لم تعلم بعد بأمر القبض عليه والحكم عليه بالإعدام. وفي خطة بارعة من طرف المخابرات المصرية، اقتيد فاروق إلى مكان خاص بالمخابرات المصرية، وخضع لسيطرة نخبة من الضباط تولت توجيهه وإدارته من جديد ليصبح عميلا مزدوجا، ليتم إرسال رسائل بواسطة جهاز اللاسلكي من صنع المخابرات الحربية، تم توظيفها بدقة ضمن مخطط للخداع، فيما تواصل الاتصال بهبة لمدة شهرين، قبل أن تقرر المخابرات المصرية استدراجها إلى القاهرة بهدوء، حتى لا تنجح في الهرب إلى إسرائيل إذا ما اكتشفت الأمر. خطة القبض على هبة كانت خطة القبض على هبة تتضمن أن يسافر ضابطان كبيران من جهاز المخابرات إلى ليبيا لمقابلة والد هبة، الذي كان يشغل وظيفة كبيرة هناك، وإقناعه بأن ابنته تورطت في عملية خطف طائرة مع منظمة فلسطينية، وأن الشرطة الفرنسية على وشك القبض عليها، و أن ما يهم هو ضروة هروبها من فرنسا بعد تورطها. ولمنع الزج باسم مصر في مثل هذه العمليات الإرهابية، طلب الضابطان من والد هبة أن يساعدهما بأن يطلب منها الحضور لرؤيته، مدعيا أنه مصاب بذبحة صدرية. وبالفعل أرسل الوالد برقية عاجلة لابنته، فجاء ردها سريعا ببرقية تطلب منه أن يغادر طرابلس إلى باريس، حيث إنها حجزت له في أكبر المستشفيات هناك، وأنها ستنتظره بسيارة إسعاف في المطار، فقامت المخابرات المصرية بالتنسيق مع نظيرتها الليبية، التي قامت بحجز غرفة في مستشفى طرابلس للأب، الذي أرسل مجددا لابنته يخبرها بعدم قدرته على السفر إلى باريس لصعوبة حالته. تأكدت المخابرات الإسرائيلية من صحة البرقية بعدما أرسلت شخصين للتأكد من وجود والد هبة في المستشفى الليبي. عند ذلك فقط سمحت لها بالسفر على متن طائرة ليبية في اليوم التالي إلى طرابس. عندما نزلت هبة عدة درجات من سلم الطائرة في مطار طرابلس وجدت ضابطين مصريين في انتظارها، فصحباها إلى حيث تقف طائرة مصرية على بعد عدة أمتار، فسألتهما: «إحنا رايحين فين؟»، فرد أحدهما: «المقدم فاروق عايز يشوفك!»، فسألته: «هو فين؟»، فقال لها: «في القاهرة». صمتت برهة ثم سألت بتعجب: «طيب.. أنتم مين؟»، فقال: «إحنا المخابرات المصرية». أوشكت هبة على الوقوع أرضا. لكن الضابطين أمسكا بها وحملاها إلى الطائرة التي أقلعت في الحال. كانت الشرطة الليبية بالمكان.كان أسلوب اعتقالها ماهرا إلى الحد الذي جعلها تتساءل عن القيمة الحقيقية للوهم الذي عاشته مع الإسرائيليين، فقد تأكدت حينها بأنهم غير قادرين على حمايتها أو إنقاذها من حبل المشنقة، فاعترفت بكل شيء بالتفصيل بعد لحظات من إقلاع الطائرة قبل أن تصل إلى القاهرة . مثلت هبة سليم أمام القضاء المصري ليصدُر بحقها حكم بالإعدام شنقا بعد محاكمة اعترفت أمامها بجريمتها، وأبدت ندماً كبيراً على خيانتها. وقد تقدمت بالتماس إلى رئيس الجمهورية لتخفيف العقوبة عنها، لكن التماسها رفض، رغم الالتماسات والضغوطات التي مورست على أنور السادات، خاصة أن غولدا مائير كانت قد بعثت بهنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك ليتوسط لدى السادات في تخفيف الحكم عنها، وكان السادات قد فطن بأن مثل هذا الطلب سيكون بداية طلبات أخرى ربما تصل إلى درجة إطلاق سراحها، فنظر إلى كيسنجر في دهاء شديد قائلاً: «تخفيف حكم؟.لقد أعدمت».وعندما سأل كيسنجر في استغراب: «متى؟»....رد السادات دون أن ينظر إلى مدير المخابرات الحربية الذي كان يقف على بعد خطوات وكأنه يصدر له الأمر «النهارده!». أما المقدم فاروق عبد الحميد الفقي فقد استقال قائده من منصبه لأنه اعتبر نفسه مسؤولاً عنه بالكامل. وعندما طلبت منه القيادة سحب استقالته، خاصة أن الحرب وشيكة (حرب أكتوبر) كان شرطه هو أن يقوم بنفسه بتنفيذ حكم الإعدام في الضابط الخائن. ولما كان هذا الطلب لا يتفق والتقاليد العسكرية فإن الأمر رفع على الفور إلى وزير الحربية الذي عرضه بنفسه على الرئيس السادات فأبدى موافقته الفورية وبدون تردد. وعندما جاء وقت تنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في الضابط الخائن، لم يعرف أحد ماذا كان شعور قائده وهو يتقدم ببطء نحوه. كما لم يعرف أحد ماذا قال القائد له وماذا كان رد الضابط عليه.لم يعرف أحد إن كان طلب منه أن ينطق بالشهادتين، وأن يطلب المغفرة من الله. لا أحد يعرف ماذا حدث.لكن المؤكد أنه أخرج مسدسه من جرابه وصوبه على رأس الضابط وأطلق طلقتين عليه كما تقضي التعليمات العسكرية في حالة الإعدام.