عندما تم إعلام الجنرال فرانكو بأن ميليشيات جيش التحرير شنت هجوما عاما على سيدي إيفني، أمر الأميرال كاريرو بلانكو، الذي كان حينها وزير رئاسة الجمهورية، بتجنب حمام دم قد يؤدي إلى قيام الحرب مع المغرب. كتب كاريرو إلى الحاكم العام في تلك الفترة رامون دي سانتايانا باردو.. «نحن مهتمون بالحفاظ على أراضينا دون خلق صعوبات في علاقاتنا مع الرباط وينبغي علينا وضع حد لجيش التحرير دون الوصول إلى حالة حرب وبسياسة نشطة من الاحتقار». هكذا يتذكر الإسبان معركة آيت باعمران. في موقع على تل جبلي، عانى الإسبان الأمرين لمدة ستة أيام يشربون فيها بولهم ويمتصون النبات. هكذا بدأت الحرب الأخيرة التي شنتها إسبانيا على المغرب. وقعت الحرب على مشارف سيدي إيفني على الساعة الرابعة إلا ربع فجر يوم 23 نوفمبر من سنة 1957. وبأمر من فرانكو، لم يتم إبلاغ الرأي العام أبدا بأبعاد هذا النزاع الذي اندلع في الصحراء وتسبب في مقتل 198 شخصا و574 جريحا و80 مفقودا من بين الجنود الإسبان الذين كانوا يحمون المستوطنات. كما أسفرت الحرب عن عدد غير محدد من الضحايا بين المغاربة الموالين لجيش التحرير الذين كانوا يحاولون إجلاءهم. حينها كانت إيفني وجهة مطلوبة من قبل العسكريين المحترفين. كما أن استقلال المغرب الذي تم الإعلان عنه سنة قبل ذلك، ترك الآلاف من الأيتام من المغاربة. وكالدكتاتور نفسه، وجد أولئك الجنود الإسبان في البلد المجاور طريقا سريعا لتعزيز ومضاعفة رواتبهم مقارنة بتلك التي يتقاضاها زملاؤهم في شبه الجزيرة، كما حظوا بهيبة ومكانة اجتماعية لا يمكن تصورها في العاصمة مدريد. ومع انتهاء الحماية في شمال المغرب وطردهم من الريف ومنطقة جبالة، لم يبق لهم سوى سيدي إيفني والصحراء لمواصلة استمتاعهم بمجتمع خاص بهم، وأصبحت المستعمرتان الاثنتان المنسيتان ملاذا أخيرا لهم. بين الجبال الحمراء كانت صحراء مأهولة بأقل من مئة ألف من الرحل، حيث الرمال والريح العاتية تقلق بمرارة تواجد الإسبان. ولكن إيفني كانت ذات جمال غريب بجبالها العالية الحمراء المغطاة بنبتة الصبار الأخضر اللامع والمسقية بمياه العديد من الجداول. فالمنطقة ذات ال1.700 كيلو متر مربع (ما يعادل ثلاث مرات مدينة مدريد)، تضرب بجذورها في جنوبأكادير. والمحيط الأطلسي الذي يغطي 60 كيلومترا من الساحل يعمل على التخفيف من وطأة حرارتها. عند اندلاع القتال، كان يقطنها 50.000 نسمة، 18 في المائة فقط من بينهم كانوا أوربيين: مسؤولون عسكريون ورجال الأعمال وعائلاتهم. أما الباقون فكانوا من المنتمين إلى قبيلة آيت باعمران، الذين ساهموا 20 سنة قبل ذلك في حرب فرانكو الصليبية. لم يكن الإسبان قد أمضوا وقتا كبيرا في سيدي إيفني. وإن كان وجودهم من الناحية النظرية، يرجع إلى خمسة قرون، فإنه لم يتعزز إلا قبل 13 سنة من اندلاع الصراع. في سنة 1934 أوكلت حكومة الجمهورية الإسبانية إلى الكولونيل أوسفالدو احتلال المنطقة. وهو نفسه من قام باختيار المكان الذي ستشيد فيه مدينة سيدي ايفني، التي سرعان ما أصبحت عاصمة إفريقيا الغربية الاسبانية. كانت تقع فوق هضبة على حافة المحيط وحول المطار. كان الشارع الرئيسي، حيث مكاتب البريد، والسينما والمتاجر الرئيسية، تبد علامات الانقسام بين سكانه: فمن جهة، توجد منازل الأوروبيين، ومن جهة أخرى الحي المغربي (باريو مورو). كانت المواقع العسكرية القوية متفرقة داخل الإقليم التي أحاطها السكان بخيامهم أو بمنازلهم التي كانوا يشيدونها. وكانت الخيوط الوحيدة التي باستطاعتها ربط الاتصال بين تلك المواقع العسكرية والعاصمة هي خيوط الهاتف. عندما تم إعلام الجنرال فرانكو بأن ميليشيات جيش التحرير شنت هجوما عاما على سيدي ايفني، أمر الأميرال كاريرو بلانكو، الذي كان حينها وزيررئاسة الجمهورية، بتجنب حمام دم قد يؤدي إلى قيام الحرب مع المغرب. وهي نفس الفكرة والقرار التي كان كاريرو يكررها دائما في رسالاته إلى الحاكمين المتتالين لغرب إفريقيا: «إن جيش التحرير هو أداة للاتحاد السوفياتي الذي يهدف إلى خلق صعوبات بالنسبة إلى الغربيين في إفريقيا»، يكتب كاريرو في 21 مارس في عام 1957 إلى الحاكم العام في تلك الفترة رامون دي سانتايانا باردو. «نحن مهتمون بالحفاظ على أراضينا دون خلق صعوبات في علاقاتنا مع الرباط وينبغي علينا وضع حد لجيش التحرير دون الوصول إلى حالة حرب وبسياسة نشطة من الاحتقار»، وتضيف الرسالة: «أعضاؤهم من سكاننا الأصليين» هم مسلمون سيئون يخدمون روسيا، عدوة الله، وإنهم خونة للسلطان». كان الواقع مخالفا ولا علاقة له بما كتب الأميرال، فجيش التحرير كان مشكلا من أعضاء ينتمون إلى حزب الاستقلال القومي، وبدعم من السلطان محمد الخامس، وكان موجها في الظل من طرف الأمير مولاي الحسن، الذي سيعتلي العرش أربع سنوات بعد ذلك باسم الحسن الثاني. كان رئيس جيش التحرير المباشر مجندا سابقا في الفرقة الأجنبية الفرنسية يدعى بنحمو. أقام المتمردون معسكرهم العام بمدينة كلميم المتاخمة لإيفني، على بعد 50 كيلومترا. كان ما بين 4.000 و5.000 رجلا يحاصرون المنطقة، بينما لم يكن عدد الجنود الإسبان المكلفين بالدفاع عنها يتجاوز النصف أي بأقل من 2000 عنصر. بوادر ظهرت أول بوادر الحرب في شهر يناير. في 29 من هذا الشهر، قام المتمردون بسحب 50 مترا من الكابلات الهاتفية حيث تركوا نقطة تاليوين الحدودية بمعزل عن العالم الخارجي من جهة الجنوب. ومع بداية شهر مارس، انفجرت قنبلة أسفرت عن مصرع طفل وإصابة أمه إصابات خطيرة في سوق أرباغ. في 6 مايو قتلوا ألفيرث، وهو رجل شرطة بعد إطلاق الرصاص عليه؛ في 7 مارس تم قتل رقيب في الجيش الإسباني، وفي 9 ماس قتل رجل أمن. كما أنهم قتلوا برصاصة من الخلف في 12 يونيو، وفي الشارع الرئيسي لسيدي إيفني، قائد القناصة وهو من أصل مغربي. وفي يوم 18 مارس تم قطع الاتصالات الهاتفية بين العاصمة مدريد وبين منطقة «ثلاث الصبويا». ثم في 10 يوليوز تم العثور على جثة شرطي من السكان الأصليين. أما في 18 من الشهر نفسه فقد تم إحراق 80.000 لتر من الوقود المخزنة بشاطىء سيدي إيفني. وفي 10 من شهر غشت، تم إطلاق النار على دوريه إسبانية عندما كانت بصدد إصلاح خط هاتفي بالقرب من تيجيسيت. وفي 16 من شهر غشت وقعت أول مواجهة مسلحة بين الجنود والمتمردين المغاربة: كانت إحدى الفرق العسكرية الإسبانية عائدة إلى سيدي إيفني حيث تم نصب كمين لها قرب المدينة. قتل أربعة متمردين حينها وجرح إسباني واحد. توتر حاد كان يسود سيدي إيفني. فأقفلت المحلات التجارية، وأغلق المواطنون الإسبان داخل بيوتهم. كان الجنود المسلحون ببندقية وأربع قنابل يدوية يقومون بدوريات في الشوارع، عبارة عن مجموعات تتكون من ثلاثة عناصر. وانضم الكثير من الجنود ذوي الأصول المغربية إلى قادة التمرد، ما أرغم الإسبان على الاستغناء عن خدمات الجنود الآخرين من أصل مغربي. ثم انطلقت سلسلة هروب الإسبان من صفوف سلك الجندية، يحكي تقرير صدر في 15 شتنبر أنه «في الفرقة الثانية للمظليين لوحدها تم تسجيل هروب 6 جنود أغلبهم انضموا إلى العدو». كان عدد الإسبان قليلا. ومعاناتهم من قلة الوسائل والموارد كانت مخزية. لم يكن يتجاوز عدد سيارات نقل فرقة المظليين سيارتي «جيب» وشاحنتين من نوع «فورد» وسيارة إسعاف. بالنسبة إلى التداريب على إطلاق الرصاص فقد كان يتم تزويد الجنود بعشر رصاصات فقط، على أن يقوموا بعد الانتهاء منها بجمع أغشيتها وتسليمها أو إعادة الرصاصات المتبقية. أما طائرات جانكر وهينكل فقد كانت قديمة ومهترئة معرضة حياة طاقمها وركابها للخطر أكثر من إلحاقها الضرر بالعدو. انفجرت إحداها أثناء محاولتها الإقلاع مخلفة 14 قتيلا، وفي شهر غشت تحطمت طائرة أخرى أثناء محاولتها النزول مخلفة 6 قتلى. وعشية قيام الحرب، لم يكن يتوفر أي جندي سوى على 288 رصاصة فقط. كانت الذخيرة المهترئة تبدو كما لو أنها غير حقيقية، ولكن القتلى في صفوفهم كانوا بالعكس حقيقيين. بين الجبال والأخاديد توجد في مفترق طرق، وهي قلعة تقع في منخفض أجوف، محاطة بجبال وأخاديد. ربما لأن المهاجمين كانوا يدركون أن المنطقة تعرف حماية 130 من الرجال، حوالي 40 في المائة من بينهم هم من السكان الأصليين، ولأنهم يدركون أيضا أن المركب يضم النساء والأطفال، لكن رغم ذلك فقد كان هجومهم شرسا للغاية. كان الجرحى في حاجة إلى الرعاية الطبية الفورية. وجه الجنرال غوميث ثامااويا أوامره لفرقة من لواء المظليين بضرورة القدوم لإنقاذهم، لقد تسبب هذا القرار في وقوع الحادثة الأكثر مأساوية في حرب إيفني. تم تشكيل القافلة العسكرية التي كانت تخضع لقيادة الملازم أنطونيو أورتيث دي ثاراتي من ثلاث شاحنات قديمة وسيارة إسعاف، بالإضافة إلى أربعة سائقين. كانت تلك الشاحنات تقل على متنها 60 جنديا، وقائدا طبيبا ولواء عسكريا. ولم يكن يتوفر أي جندي سوى على وجبة غذاء تكفي ليوم واحد فقط (علبة من السردين، قطعة خبز وقنينة ماء)، وكانوا مسلحين ببندقية وستة خراطيش من فئة 20 رصاصة. إضافة إلى ذلك، كانت الفرقة العسكرية تتوفر على مدفع رشاش، ومدفع هاون قديم وجهاز راديو للاتصال. كانت عقارب الساعة تلامس الخامسة وخمسا وثلاثين دقيقة من 23 من شهر يونيو، وفي باحة ثكنة سيدي إيفني وأثناء محاولته ركوب الشاحنة، ودع الملازم جنوده قائلا: «إما سأدخل «ثلاث الصبويا»، أو سأذهب إلى السماء» وبالفعل فقد كان الاحتمال الثاني هو نهاية حياته. لا تبعد سيدي إيفني عن «ثلاث الصبويا» سوى ب 35 كيلومترا. الطريق اليوم بين المكانين والتي لاتتجاوز العشرين دقيقة بالسيارة هي في غاية الروعة. ولكن بالنسبة إلى 66 جنديا التابعين لفرقة اورتيز دي ثاراتي فقد استغرقت عشرة أيام وكانت جحيما حقيقيا لا يطاق. كانت الطريق عبارة عن معبر للماعز. لحظات بعد انطلاقهم من الثكنة في اتجاه «ثلاث الصبويا»، اكتشف الجنود أن أجهزة اللاسلكي التي ينبغي عليها التواصل مع المعسكرات الأخرى لم تكن تعمل. كانوا يزحفون ببطء وحذر شديدين. لم يتمكنوا من السير سوى 20 كيلومترا في ظرف ساعتين من الزمن. وعلى الساعة السابعة والنصف مساء أمر الملازم، الذي كان يخشى الوقوع في كمين من طرف المتمردين، بنصب الخيام وإحاطتها بالسيارات على شكل دائري، فيما كانت مقدمة كل السيارات موجهة صوب الطريق استعدادا للهروب. في السابعة والنصف مساء من اليوم الموالي ستستأنف الفرقة تقدمها البطيء. وبعد ساعتين سيفاجؤون بوجود أول حاجز وسط الطريق وضع من قبل المتمردين. قفز الجنود مذعورين من الشاحنات. وفي الوقت الذي كانت فيه مجموعة من الجنود تزيح الحجارة عن وسط الطريق كان رفاقهم منتشرين وأياديهم على الزناد استعدادا لإطلاق الرصاص وحمايتهم من هجوم مباغت. واستمرت الفرقة في مواصلة طريقها إلى حدود العاشرة ليلا لتصاب إحدى الشاحنات بعطب في محركها. بعد محاولات عديدة سيتمكن الجنود من إعادة تشغيلها، لكن العقبات التي وضعت في الطريق كانت تتزايد كل مرة أكثر، وفي كل مرة كان الجنود ينزلون هلعين لإزالتها فيما يقوم الآخرون بحمايتهم على شكل عمودين. وعلى الساعة الحادية عشرة إلا ربع ليلا بدأ إطلاق النار عليهم من ثلاث نقاط مختلفة. قفز الملازم للاحتماء وراء عجلات الشاحنة، وأمر بشن هجوم مضاد انتهى بمقتل أربعة متمردين، في حين أصيب عدد كبير من الجنود بجروح. أحد المتمردين قتل بمنجل من طرف جندي إسباني. 400 متر بعد ذلك وعلى مشارف «ثلاث الصبويا»، وجدوا أن الطريق قد تم قطعها بشكل كلي، حيث أصبحت معزولة تماما. وبدأ ينهال على الفرقة العسكرية الإسبانية وابل من الرصاص كالمطر، حيث اخترقت إحدى الرصاصات صدر أحدهم. كان المتمردون يطلقون النار بكثافة من تل جبلي. أمر الملازم فرقته بالاستيلاء عليه. ومن أعلى التل، اقتنع اورتيز دي ثاراتي بأنه لا جدوى من القيام بمحاولة للتحرك نحو المكان وأمر بإقامة مخيم ونصب بعض الخيام. كما أرسل مجموعة من رجاله لجمع الأغطية والأغذية التي تركوها في الشاحنات. أثناء انتقالهم إلى الشاحنة لفتت انتباه أحد الجنود جثة زميله وهو مصاب بطعنة في الوجه والصدر، قام الجندي بخلع حذاء رفيقه القتيل وأكمل طريقه لأخذ الأغطية، بعد عودتهما من المنحدر فاجأهم أحد المتمردين بقنبلة أسفرت عن مقتل اثنين منهم. منعزلين تماما في قمة التل، شرع الجنود الإسبان في محاولة تثبيت جهاز راديو الاتصال بهدف طلب المساعدة من سيدي إيفني، ولكن الجهاز لم يكن يعمل. وفي يأس وحنق كامل، قام الملازم برمي الجهاز من أعلى المنحدر. لقد علم كذلك بأن مدفع الهاون مصاب بعطب ولن يشتغل. طوال ذلك اليوم وبعد مضايقتهم بإطلاق النار عليهم، بقي الجنود طول الوقت منبطحين أرضا تفاديا لإصابتهم برصاص المتمردين المغاربة. وفي السادسة من صباح يوم 26 حاول المتمردون اقتحام الموقع فأصيب الملازم بانفجار في صدره سقط على إثره قتيل في الحال فيما سقط جندي آخر برصاصة في الرأس. وفي منتصف النهار أسقطت طائرة حربية كمية من الأغذية ومظلة تحمل برميلا من الماء. لكن الجنود لم يتمكنوا سوى من أخذ حزمتين تتوفران على الأكل، حيث سقطت أغلبيتها في أيدي رجال العصابات. في أعلى التل، عانى الجنود الإسبان ستة أيام من هجمات المتمردين وتهديد العطش وامتصاص النباتات وشرب البول. وأخيرا، في 2 دجنبر سمعوا الإعلان عن وصول تعزيزات عسكرية. تبخر المتمردون وشرعت عناصر الإنقاذ في انتشال جثث زملائهم المتحللة وتم نقلهم إلى «ثلاث الصبويا»، حيث استقبلوا استقبال الأبطال. تحرير «ثلاث الصبويا» المحاصرة وغيرها من المواقع الأخرى كلف الإسبان عشرات الأرواح معظمهم من الشباب. تضحيتهم لم تدم لوقت طويل. ففي قصر الباردوبمدريد توصل فرانكو إلى استنتاج مفاده أن تلك المناطق لم تكن محصنة جدا. وحظر أية محاولة لاستعادتها، كما أمر بتفجيرها بالديناميت. تراجعت القوات الإسبانية إلى سيدي إيفني وتركت بقية الإقليم في أيدي المغرب، كما سلمت إلى محمد الخامس ما كان يطلق عليها بالمحمية الجنوبية، وهو شريط طويل من الصحراء يعادل في مساحته تقريبا كل منطقة كاتالونيا. عن «إلباييس سيمانال» الإسبانية