وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس , نصره الله , رسالة سامية إلى المشاركين في اليوم الدراسي الذي افتتح اليوم الأربعاء بالمكتبة الوطنية بالرباط حول موضوع "محمد الخامس - دوكول : من نداء لآخر" وذلك بحضور أزيد من 300 مشا رك من المغرب وفرنسا. وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها السيد محمد معتصم مستشار صاحب الجلالة : " الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه. معشر الضباط السامين, أصحاب المعالي والسعادة, حضرات السيدات والسادة, يطيب لنا أن نتوجه إليكم في افتتاح هذا اليوم الدراسي; منوهين بما حالفكم من توفيق في اختيار موضوعه. ألا وهو "محمد الخامس - دوكول : من نداء لآخر". إن هذا الملتقى يعد فرصة ثمينة لاستحضار لحظات تاريخية حاسمة, صنعت الذاكرة المشتركة بين المغرب وفرنسا; ومن أقوى محطاتها الكفاح, الذي خاضه بلدانا الصديقان, خلال الحرب العالمية الثانية. فبفضل هاتين الشخصيتين الفذتين; جدنا المنعم, جلالة الملك محمد الخامس, أكرم الله مثواه, والجنرال شارل دوكول, رحمه الله, تمكن كل من المغرب وفرنسا, وفي ظروف عصيبة ورهيبة, من نسج عروة وثقى لا انفصام لها, ضمن تحالف مقدس وغير مسبوق; قوامه جعل تحرير الإنسانية, وأوربا والعالم أجمع, من النازية والفاشية, مقدما على تحرر البلدان. ومن هنا, فما إن لاحت أمام المغرب معالم طريق الكفاح من أجل الحرية والانعتاق, حتى انخرط في نضال تحرري آخر, ألا وهو النضال ضد الهمجية النازية, والهيمنة والتسلطية. وبصرف النظر عما كان يساور السلطات الفرنسية يومئذ, من توجسات وتخوفات, أقدم جلالة السلطان محمد بن يوسف, والشعب المغربي قاطبة, وبدون أي مواربة, على مساندة الحلفاء. ومن ثم جاء نداء الوفاء والصدق, الذي أعلن فيه, أكرم الله مثواه, في الثالث من شتنبر 1939, أنه "من هذا اليوم الذي اتقدت فيه نيران الحرب والعدوان, إلى اليوم الذي يرجع فيه أعداؤنا بالذل والخسران, يتعين علينا أن نبذل لها الإعانة الكاملة, ونعضدها بكل ما لدينا من وسائل, غير محاسبين ولا باخلين, فقد كنا معاهدين لفرنسا ومشاركيها في ساعة الرخاء, ومن الإنصاف أن نشاركها اليوم في ساعة الشدة والبأساء, حتى يكلل النصر أعمالها ويزهو سرور النجاح أيامها...". إن الأمر لم يكن يتعلق بتصرف ظرفي عابر; بل كان تجسيدا لموقف مبدئي, وإرادة متجذرة في تاريخ المملكة, مستمدة من قيم خالدة لا يبلوها الزمان, والتي نتقاسمها على الدوام مع العالم الحر. إنها قيم الوفاء للصداقة, والالتزام بالعهد, ونصرة الحرية وحقوق الإنسان, والتحلي بالشهامة والتضحية, والتفاني في الدفاع عنها. فهذه المبادئ, التي ظل جدنا المنعم متشبعا بها, قد وجدت صداها في مضمون وروح النداء الذي كان الجنرال شارل دوكول مقبلا على توجيهه, في 18 يونيو 1940, وفي رفض السلطان محمد بن يوسف لتطبيق القوانين المعادية للسامية, الصادرة عن نظام فيشي. ومن أجل هذه المبادئ والقيم, أدى المغرب, شأنه في ذلك شأن فرنسا, الثمن من دم أبنائه, في سبيل نصرة الحرية والعدل. واعترافا بهذا الموقف البطولي المشهود, خول الجنرال دوكول, باسم فرنسا, جدنا المنعم الوسام الرفيع والمكانة التاريخية, باعتباره رفيقا للتحرير. وما تزال شهادة الجنرال دوكول خالدة على مر الزمن, وهي قوله : "ترتبط فرنسا والمغرب, بوشائج قوية, ازدادت مؤخرا متانة ورسوخا, بفعل دمهما الذي ارتوت به ساحة المعارك, والذي فتح أمامهما آفاقا واعدة وزاهرة". وعلى هذه الأسس, تولّى بلدَانا بناء مصير مشترك, مكننا اليوم من بلورة شراكة متميزة. كما أن تقاسم نفس قيم الصداقة, والتعاون والتضامن, والتشبع بالديمقراطية والانفتاح, والاحترام المتبادل لمقومات بلدينا; كل هذه القيم التي نتشبث بها, جعلت المغرب يتبوأ مكانة شريك متميز في علاقاته الاستراتيجية بفرنسا, ووضعا متقدما في روابطه النموذجية بالاتحاد الأوروبي, وفاعلا أساسيا في الفضاء الأورو-متوسطي والإفريقي. حضرات السيدات والسادة, إن هذا اليوم الدراسي, لا يكتسي أهمية أكاديمية فقط, وإنما يحمل أيضا طابعا رمزيا ساميا, سواء بالنسبة للماضي, أو الحاضر أو المستقبل. لقد جمع تاريخ التحرير, في كل من فرنسا والمغرب, بطلين سيظلان رمزا, ليس فقط لترسيخ قيم الحرية والإخاء والمساواة, ولكن لصداقة دائمة تعتبر هذا الرصيد التاريخي, مصدرا لإلهامها, ودعامة لاستمرارها. وإني لواثق, بأن مداولاتكم المثمرة, ستساهم في التعريف الأعمق بالجوانب المشرقة لهذا الماضي, وإضافة لبنة جديدة لتوطيد علاقاتنا النموذجية, المطبوعة بوشائج الصداقة المتينة, والتفاهم الودي, والاحترام المتبادل, التي لا مجال فيها لسحب ولو عابرة, أو لمركبات أو نوازل. وما فتئنا نعمل سويا مع صديقنا العزيز, فخامة الرئيس نيكولا ساركوزي, على ترسيخ الارتقاء بها للمكانة الرفيعة لشراكة استراتيجية, لما فيه خير شعبينا الصديقين, وصالح تعاونهما البناء, سواء في المجال الثنائي, الذي هو موضع ارتياحنا الكبير واعتزازنا البالغ; أو على الصعيد الجهوي بتضافر جهودنا في نطاق الاتحاد من أجل المتوسط, أو لتنمية واستقرار إفريقيا, ووحدة بلدانها, وخاصة بجوارنا المباشر المغاربي, وببلدان الساحل; أو على الصعيد الدولي, للإسهام معا في انبثاق حكامة عالمية أكثر إنسانية وإنصافا وتضامنا. وإذ نرحب بالمشاركين في هذا الملتقى الهام, نتمنى كامل التوفيق لأعمالهم, بما يغني البحث العلمي والأكاديمي في هذا المجال. وإننا لعلى يقين من أن تخليد هذه الذكريات المجيدة سيعزز رصيدنا التاريخي والحضاري المشترك, ويشكل حافزا للأجيال الحاضرة والصاعدة على بناء مستقبل أرغد, قوامه المبادئ الخالدة لسيادة ووحدة البلدان الوطنية والترابية, وقيم الديمقراطية والتقدم والتضامن والتنمية المشتركة. تلكم القيم التي كافح وضحى من أجلها فخامة الرئيس الجنرال شارل دوكول, وجدنا المقدس جلالة الملك محمد الخامس, ورفيقه في الكفاح, والدنا المنعم, جلالة الملك الحسن الثاني, خلد الله في الصالحات ذكرهم, والتي يواصل المغرب وفرنسا توطيدها, ضمن شراكة استراتيجية نموذجية. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".