تبيع الحلم والأمل، يقصدها المتعلمون ورجال الأعمال وذوو المراكز المرموقة من العاصمة ومن مدن أخرى.اشتهرت بالتنبؤ بمستقبل الأشخاص والعالم، يطلقون عليها "الزيزونة"، نسبة إلى إعاقتها، تمكنت في وقت وجيز من خلق مكانة مهمة بين زبنائها من المترفين، الذين تمكنت من التحكم في عقولهم وجعلتهم من أوليائها المخلصين، الدائمي التردد عليها، يستشيرونها في كل كبيرة وصغيرة.. إنها الشوافة "الزيزونة". منذ حلول الأسبوع الثاني من آخر شهر من السنة التي نودعها، في انتظار السنة الجديدة، ازداد الإقبال على شوافة الرباط، بشكل كبير مقارنة بالأيام العادية، إذ أصبح زبناؤها يتوافدون على بيتها طوال النهار، وإلى ساعة متأخرة من الليل، للتنبؤ لهم بما تحمله إليهم السنة المقبلة، حول مشاريعهم العملية والشخصية. بيت متواضع في منزل متواضع بعمارة قديمة بأحد أحياء العاصمة الإدارية، اختارت عرافة في عقدها الخمسين، خرساء، أن يكون بيتها محجا لأصحاب النفوس الضعيفة من الجنسين، ومن مختلف الفئات العمرية. أغلب زبنائها ينتمون إلى الطبقات الغنية، منهم متعلمون ومثقفون ورجال أعمال. قلة قليلة ممن ينتمون إلى الطبقات المتوسطة، سيارات فارهة من مختلف الماركات ترتكن أمام العمارة وبجنباتها، نساء ورجال يدخلون العمارة وآخرون يغادرونها، خلال فترات متباعدة، الشيء الذي لا يوحي بوجود نشاط معين بهذا المكان. سكان العمارة والحي اعتادوا على هذا المشهد المتكرر كل يوم، ويعتبرون نشاط العرافة أو كما يطلقون عليها "الزيزونة"، حرية شخصية، لكن الجميع، سواء سكان العمارة أو أصحاب الدكاكين، وخاصة حارسو السيارات بالحي، انتبهوا إلى الحركة الدؤوبة بالعمارة، التي تشتغل بها العرافة منذ حلول الأسبوع الثاني من الشهر الأخير من السنة، التي نودعها. لم يكن البحث عن مسكن العرافة صعبا، فأول من تلتقي به بالحي يدلك على مكانها، خصوصا أصحاب الدكاكين وحارسو السيارات. أحدهم أخبر "المغربية" أنه إلى جانب عمله كحارس لسيارات الزبائن يحاول تقديم المساعدة للبعض من زبناء العرافة، خصوصا النساء اللواتي يبحثن عن بديل للعرافة الشهيرة، إذ يأخذهن إلى فقيه "سوسي" بحي شعبي بمدينة تمارة، يقول إنه بارع، وهي الخدمة التي عرضها على "المغربية" لما كانت بصدد السؤال عن هذه العرافة، وهذه الخدمة، كما يدعي حارس السيارات، يؤديها في سبيل الله، على حد تعبيره، لكن ذلك لا يمنعه من طلب مقابل مادي قبل أو بعد لقاء الزبون بالكاهن المذكور. نساء ورجال كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا، في الطابق العلوي توجد قاعة للانتظار بمعزل عن البيت، ممتلئة عن آخرها، أمهات رفقة بناتهن، شابات في مقتبل العمر مع صديقاتهن أو بمفردهن، أغلبهن أنيقات يضعن عطورا من الصنف الممتاز، يحملن هواتف محمولة من الطراز الحديث، ورغم ارتفاع عدد الحاضرين إلا أن المكان كان هادئا، منهم من فضل الانتظار في صمت، في حين كان البعض الآخر يتبادل أطراف الحديث، تارة باللغة الفرنسية وتارة أخرى بالعامية المغربية بصوت منخفض، تفاديا للضجيج، أما الرجال فكانوا ينتظرون دورهم ببهو صغير وضعت به أريكة قديمة مصنوعة من الجلد، أغلبهم أمضى وقته في التحدث عبر الهاتف المحمول، وأغلبهم كان يستعجل شقيقة العرافة من أجل لقاء الأخيرة، بدعوى أن لديه أعمالا تنتظره. بقاعة الانتظار يوجد فراش قديم ومائدة من البلاستيك وضع فوقها إبريق من الشاي وكعكة كبيرة، يظن كل من يزور العرافة لأول مرة أنها من أجل واجب الضيافة، والواقع أنه مؤدى عنها من طرف كل زبون اشتد به الجوع، ولم يجد سبيلا للتصالح مع معدته، التي لم تعد قادرة على المقاومة بسبب طول الانتظار. ستار من الثوب وضع على باب غرفة صغيرة، تطل على قاعة الانتظار، كانت تستقبل العرافة وأختها الزبناء من الجنسين، كل حسب دوره، ووجود هذه الأخيرة ضروري لأنها تقوم بفك رموز الإشارات وترجمتها إلى كلام لفائدة المترددين على العرافة. الجميع كان يحمل في داخله أسئلة كثيرة للعرافة، أو مشاكل شخصية لم تجد طريقها إلى الحل، فالعرافة بالنسبة إليهم أصبحت وسيلة للتفريج عن همومهم. الكل يترقب دوره، الهواتف المحمولة لا تتوقف عن الرنين طوال الوقت لدى أغلب الزبناء، الذين كانوا ينكرون مكان وجودهم في حالة سأل المتصل، منهم من ادعى أنه في عيادة الأسنان، وآخر يقول إنه يزور صديقا، أو يقضي حاجة معينة، وكان ذلك أمرا طبيعيا، إذ كيف يمكن لشخص له مكانته في النسيج الاجتماعي أو الاقتصادي أن يعرف الناس أنه يستعين بالكهنة والمشعوذين في قضاء مصالحه، والتنبؤ بأشياء لا يعلمها إلا الله. ثمن الزيارة الإقبال المكثف على العرافة التي ذاع صيتها بين الكثيرين، جعلهم يتسابقون على بيتها يوميا، ابتداء من الثامنة صباحا لحجز الأدوار الأولى، خوفا من أن يتعذر عليهم لقاؤها، علما أنها تشرع في استقبال زوارها بعد الظهر. ويقدر مبلغ "الزيارة" كما يطلقون عليها، 50 درهما، و100 درهم إذا أراد الزبون تجنب الانتظار من خلال طلب موعد مسبق، وفي الحالتين معا يجب أداء قدر من المال لأخت العرافة لا يقل عن 20 درهما، مقابل "الترجمة الفورية"، التي تقوم بها من أجل الزبون، وهذا يعني دخلا يوميا مهما يقدر بآلاف الدراهم. أغلب زبناء العرافة يترددون عليها باستمرار، منهم من يزورها مرتين أو أكثر في الشهر الواحد منذ سنوات طويلة، لدرجة أن البعض لا يمكن أن يقوم بأي خطوة دون استشارتها، وما تقوله يجري العمل به، وهو ما صرحت به إحدى الشابات، من عائلة غنية، كثيرة الثرثرة، أن عائلتها كلها لا تستغني عن نصائح العرافة في أي أمر مهما كان بسيطا في الحياة، فأخوها الأكبر، وهو صاحب شركة، لا يتردد في استشارتها فيما يود القيام به من أعمال داخل الشركة، حتى أنه يفكر في الارتباط بشابة نسج معها علاقة، وأنه قدم شخصيا لمعرفة إن كانت تصلح لأن تكون شريكة حياته. هذه العائلة، الأخت وزوجها وأشقاؤها، لا يترددون في القدوم إلى العرافة قبل اتخاذ أي خطوة تهم حياتهم، هذا ما أكدته، هذه الشابة وهي تتحدث عن العرافة بثقة كبيرة، وما أكد كلامها، أنه بعد لحظات قدم شقيقها الأصغر، يحمل بدوره موعدا، ألقى التحية على شقيقته قبل أن يعود للجلوس مع الرجال، وانتظار دوره، كان يريد الاستشارة مع العرافة في أمر يحيره، على حد قول شقيقته. هناك شخصيات نافذة، تفضل رؤية العرافة، بعد منتصف الليل، حتى لا يراهم أحد، ويكتشف أمرهم، إذ كانت شقيقة العرافة في كل مرة، تخرج من الغرفة التي بها أختها، تحدث الزبون من هؤلاء وتحدد له موعدا في أي يوم من أيام الأسبوع، بعد منتصف الليل، وهناك زبناء يفضلون أن تنتقل إليهم العرافة إلى بيتهم، وهؤلاء يدفعون للعرافة بسخاء مقابل ذلك، على حد قول شقيقة العرافة، التي كانت لا تتردد في التباهي أمام الحاضرين ببعض الشخصيات المرموقة في المجتمع التي تتعامل مع شقيقتها، تذكر المناصب، دون أن تسمي الأشخاص. ضجر واستياء ولدت ساعات الانتظار الطويلة استياء كبيرا لدى أغلب الحاضرين، خصوصا الذين قدموا خلال الفترة الصباحية سواء من مدينة الرباط أو من مدن أخرى كفاس والجديدة والبيضاء، وكذلك الذين قدموا خفية عن أزواجهم من النساء، وحتى بالنسبة للرجال الذين كانوا يخفون نظراتهم وراء نظارات شمسية... ما زاد من تذمر الزبناء أصدقاء العرافة من الجنسين، الذين كانوا يخرقون القاعدة، غير مبالين بمن ظلوا ينتظرون لساعات من الزمن، وكانوا يتذرعون بحصولهم على موعد مسبق، مما دفع ببعض الزبناء للاحتجاج حول هذا السلوك الذي اعتبروه غير عادل، لكن أخت العرافة لم تأبه بهم، فهي معتادة على مثل هذه الخلافات، بل كانت في كثير من الأحيان تقف إلى صف من يغدق عليها بالمال الوفير، وأحيانا أخرى تثور في وجه المستنكرين، وكان البعض منهم يغضبون ويهددون بالمغادرة، لكنهم لا يفعلون، وهي كانت تعلم بذلك، فلم تكن تعرهم أي اهتمام. خيم الظلام وتأخر الوقت، وفضل البعض المغادرة، ولم يبق إلا قليلون ممن يصرون على لقاء العرافة، ولتجنت الضجر بدأ الباقون في تبادل أطراف الحديث فيما بينهم، واستغلت إحدى الزبونات الفرصة للترويح عن نفسها بسرد قصتها وسبب قدومها إلى هذا المكان، قائلة "تزوجت منذ مدة قصيرة لا تتجاوز سنتين، كنت في البداية أعيش حياة طبيعية رفقة زوجي وقد أنجبت طفلا، بعد ذلك أصيب هذا الأخير بالبرود الجنسي، وتحولت حياتنا إلى جحيم، وأصبحنا نعيش مثل الغرباء تحت سقف واحد، لهذا فكرت في استشارة العرافة، ربما تجد لنا حلا، لأن زوجي يرفض أن يعرض نفسه على طبيب مختص". توديع العرافة تأخر الوقت، الأختان بدا عليهما التعب، ورغم ذلك كانتا تقاومان لمواصلة العمل، واستقبال ما تبقى من الزبناء، إذ أكملت الأخت عمل الترجمة وهي مستلقية على الأريكة، فهي لم تعد قادرة على الجلوس، في ذلك الوقت كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا، ولم يبق في قاعة الانتظار إلا ثلاث شابات، إحداهن من المهاجرين المغاربة جاءت خصيصا لرؤية الخرساء، ورغم طول انتظارها أصرت على لقائها، لأن الأمر ضروري بالنسبة إليها من جهة، ولأنها على موعد في اليوم الموالي مع الطائرة المتجهة نحو الديار الفرنسية. قبل المغادرة، لم تكن أخت العرافة تتردد في طلب عودة أي زبون بعد أن يودعها، بدعوى أنه من الضروري مواصلة استشارتها لتحقيق المراد، طبعا ليس مراد الزبون، بل مرادهما في جمع مزيد من المال...