عن مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية وضمن سلسلة "التراث المغربي" صدر، أخيرا، بالرباط، الديوان الخامس من "موسوعة الملحون" تحت اسم "ديوان الشيخ التهامي المدغري" الذي دأب على جمعه وإنجازه أعضاء لجنة الملحون، التي يشرف عليها مستشار جلالة الملك الباحث والعلامة عباس الجراري. تتصدر الديوان الجديد، الذي صدر في حلة أنيقة، رسالة جلالة الملك محمد السادس الموجهة إلى أمين سر الأكاديمية عبد اللطيف بربيش، بمناسبة صدور الديوان الرابع "الشيخ سيدي قدور العلمي"، التي أكد فيها جلالته دعمه ورعايته لكافة أعضاء الأكاديمية، الذين يتولون إحياء تراث المغرب بكل أنواعه وموضوعاته، حسب ما ورد في الرسالة الملكية الصادرة في 18 مارس 2010، نقتطف من متنها ما يلي"سرنا أن تتولى الأكاديمية إحياء تراث المغرب بكل أنواعه وموضوعاته، وأن يقوم بذلك صفوة من الأساتذة المغاربة المختصين في الموضوع، وذلك في التزام بالمنهج العلمي المأخوذ به في نشر وإصدار كل صنف من أصناف التراث الوطني على الوجه الأمثل. كما ابتهجنا باهتمام الأكاديمية بنشر شعر الملحون الذي كان للشعراء والزجالين المغاربة باع طويل فيه، على مدى العصور الأخيرة، تعبيرا عن الشخصية المغربية، والتغني بما يختلج في نفوس المغاربة من مشاعر دينية ووطنية وعاطفية". إضافة إلى الرسالة الملكية، يتضمن الإصدار الخامس، الذي يقع في 716 صفحة، من القطع الكبير، 117 قصيدة في أغراض شعرية مختلفة منها "المدائح، والربيعيات، والعشاقيات والخمريات"، كما يضم الديوان تقديما للباحث والمشرف على لجنة الملحون عباس الجراري، الذي يؤكد صعوبة البحث في التراث المغربي، قائلا: "رغم كل المتاعب والمصاعب التي تعترض البحث في التراث الشعبي عامة، والشعر الملحون خاصة، لا سيما في ما يتعلق بجمع النصوص، فتسنى لأكاديمية المملكة المغربية، بفضل اللجنة التي أنشأتها لإخراج "موسوعة الملحون"، أن تصدر دواوين أربعة مهمة لأشياخ كبار، هم على التوالي عبد العزيز المغراوي، والجيلالي امتيرد، ومحمد بن علي ولد ارزين، وعبد القادر العلمي، في حرص على معايير منهجية دقيقة". وعبر الجراري، في تقديمه، عن اعتزازه واعتزاز كل أعضاء لجنة موسوعة الملحون المشكلة من 25 باحثا من بينهم عبد الهادي التازي، وأحمد الطيب لعلج، وجمال الدين بنحدو...، بالرسالة الملكية السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس لأمين السر الدائم للأكاديمية لعبد اللطيف بربيش، على إثر اطلاعه على ديوان العلمي، قائلا: "إنه لطالع إسعاد وتشريف أن تتصدر الرسالة المولوية الميمونة هذا الديوان الجامع لقصائد شيخ الملحون، الشاعر التهامي المدغري، المعروف ب"السي التهامي"، المشهود له بمكانة إبداعية بارزة ومتميزة". وفي حديثه عن التهامي المدغري، يبرز الجراري، مكانة الشاعر من خلال ما قاله المشرفي "هو الشاعر المفلق الحائز لفصاحة المغرب والمشرق، ملحونه من الهموم يسري، وموزونه على أبحر الخليل يجري. هو والله واسطة عقد الدهر في صناعة الشعر الملحون والموزون، كان بهما يسلي قلب المحزون. شاعر تاج الدولة العلوية المنسوب إليه والمشهور به لأنه جذب بضبعه ورفع من قدره، وألقى عليه شعاع سعادته حتى سار شعره فيه سير الشمس والقمر، وطار كلامه بالملحون في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده والأيام تحفظه". وبفضل هذه المكانة المتفردة أتيح لقصائده أن تعرف ذيوعا وانتشارا واسعين، وأن تحتل حيزا كبيرا في ذاكرة الحفاظ والمنشدين وفي مجاميع الملحون وكنانيشه، كما أتيح له أن يحظى بعناية غير قليل من المؤرخين والدارسين الذين أولوا اهتماما خاصا للتعريف به. ويرجع أصل "السي التهامي"، حسب ما ورد في مقدمة الديوان، إلى تافيلالت، وتحديدا إلى امدغرة التي يسجل اسمه نسبته إليها، إلا أنه نشأ وترعرع وعاش في مراكش، ثم في فاس حيث كان يختلف إلى حلقات الدرس في جامعة القرويين، رفقة الأمير محمد بن عبد الرحمان، الذي كان صديقا ملازما له، بعد أن ولاه الخلافة والده السلطان المولى عبد الرحمان بن هشام. كان السلطان يضيق بالعلاقة التي كانت تربط الأمير بالشاعر، لما قد يكون لها من تأثير سلبي عليه وهو يهيأ لولاية العهد، مع العلم أن السلطان كان من هواة نظم الملحون. ويحكى في هذا الصدد أن المولى عبد الرحمان سأل أحد وزرائه عن سير دراسة ابنه، فأجاب بأنه "بين الشقي والعاصي وملذذ المعاصي"، ويقصد بالشقي مولاي السعيد، وبالعاصي أخاه مولاي المطيع، وبملذذ المعاصي صديقه التهامي المدغري، وهي إجابة جعلت الشاعر ينتهز إحدى جلساته مع السلطان لإثارة هذا الموضوع ويقول له: "بل أنا ملذذ المعاني يا مولاي". ولما تفاقم أمر سيدي محمد أمر والده السلطان بنفي السي التهامي إلى فاس، فنظم الأمير قصيدة "المفروق" التي يقول في حربتها "مطلعها": المفروق بلا اتفاق بغرام احبيبي باقي / في اضلوعي رشاق / وامحاور وسط الجوف حارقة. فنظم التهامي بعد ذلك: ما في الفرقة اصلاح واللايم عقله ساحي / ما جرب ما ارتاح ما انكوى بالنجلة الجارحة. وفي سياق هذه العلاقة الحميمية بين الشاعر والأمير، يسجل الجراري خمس ملاحظات، أولاها أن المدغري لم يدرك عهد سلطنة صديقه، لأنه، وفق ما ذكر ابن زيدان في "إتحاف أعلام الناس"، توفي بفاس قبل بداية عهد سيدي محمد بنحو أربع سنوات، ودفن بضريح سيدي أبي نافع بفاس. ثانيها أن الشاعر كان يمدح الأمير بقصائد قليلة، على نحو قصيدته "الغزيل" التي جاءت "عشاقية" النفس، إذ يقول في حربتها: دام الله اجمال صورتك يا شادي / انت اعنايتي وامرادي / اغزيل يسبي من جا يصيده / يا ازنجار في عين حاسده سيدي محمد. تالثها أن بعض الشعر المنسوب للمدغري ليس له، وإنما هو لسيدي محمد، الذي لم يكن يريد أن يعرف والده السلطان ولعه بنظم الملحون، فكان، على غير عادة أشياخ هذا الفن، لا يذكر اسمه في شعره، ما جعل المدغري نفسه يتجنب هذا الذكر، إلا في قصائد قليلة، ما نتج عنه اختلاط شعره بشعر الأمير. رابعها أنه رغم أن المدغري لم يكن يكشف عن اسمه في قصائده، فإنه في بعضها يذكره أو يشير إليه، خصوصا في قيدة "الورشان" التي يقول في آخرها مصرحا باسمه ونسبه: اسمي توضاحو تهامي / معروف مدغري تنسابي / خذي للرجال اتراب. خامسها وآخرها أن شعراء غير قليلين كانوا يحملون اسم التهامي أو نسبه المدغري، ما يجعل شعرهم معرضا للاختلاط بشعر "السي التهامي"، بل إن منهم من كان يحمل اسمه بالكامل كالشاعر التهامي المدغري الذي ذكر الراحل محمد الفاسي أنه دون "السي التهامي الشهير"، أما الشعراء الذين يحملون اسم "التهامي" فكثيرون منهم: التهامي ابن الزياني الرباطي، الذي عاصر المولى الحسن الأول، والتهامي بن فضول صاحب قصيدة "الإدريسية"، واتهامي بناني صاحب قصيدة "نيس"، والتهامي الركلة، والتهامي بن فضول المرنيسي، والتهامي الغرفي الإدريسي، وغيرهم.